عربات جدعون.. حين تتحول التوراة إلى خطة حرب

لؤي صوالحة
الجزء الثاني من مقال: "عربات جدعون.. مسمى جديد لمجزرة مستمرة بحق غزة"
وكالة القدس للأنباء (قدسنا) الصحفي لؤي صوالحة – فلسطين : لم تكن "عربات جدعون" مجرد تسمية عسكرية عابرة، بل مرآة تعكس التحول الأخطر في العقيدة الصهيونية، حيث تتحول الحرب من عمل سياسي إلى طقس ديني، ومن صراع على الأرض إلى معركة مقدسة ضد "الشعوب المدنّسة"، كما تصفهم النصوص التوراتية التي يستند إليها الاحتلال.
"جدعون"، القائد التوراتي الذي خاض حربه باسم الرب ضد "المديانيين"، يعود اليوم على شكل دبابات تُحاصر غزة، وصواريخ تهدم ما تبقّى من الحياة، وجنودٍ يرون في أنفسهم ورثة لوعد إلهي يجب تحقيقه ولو على جثث الأبرياء. ليس الأمر رمزيًا فحسب، بل عقائديًا بامتياز.
في سفر القضاة (7:2-7)، تُروى قصة جدعون الذي اختار الرب له ثلاثمئة مقاتل فقط، ليثبت أن النصر ليس بالكثرة بل "ببركة الرب"، وجاء في النص:
> "وقال الرب لجدعون: إن الشعب الذي معك كثير عليّ... فقل لهم: من كان خائفًا فليرجع... فبقي من الشعب ثلاثمئة رجل... فقال الرب لجدعون: بهؤلاء أخلصكم."
هذه القصة تُدرّس اليوم في الأوساط الدينية العسكرية في إسرائيل، ليس كدرسٍ روحي، بل كمنهج تعبئة، يُعزز الإيمان بأن "القلة المختارة" قادرة على سحق "المدن الوثنية" كما سُحقت مدن كنعان.
وفي سفر التثنية (20: 16-17)، تُورد التوراة نصًا صريحًا بالإبادة:
> "أما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا بها، فلا تستبقِ منهم نسمة ما، بل حتمًا تحرمهم... كما أمرك الرب إلهك."
هذا النص لم يُدفن في صفحات التاريخ، بل بُعث حيًا في رفح، وفي دير البلح، وفي كل مخيم فلسطيني يتعرض لـ"تحريم" جماعي بالمعنى التوراتي: محو كل أثرٍ للناس، للحياة، للهوية.
وهكذا تُصبح غزة في الرواية الصهيونية ليست مدينة يسكنها بشر، بل مدينة "ملعونة" تُخضع لـ"الهلاك المقدّس". وما الطائرات والدبابات إلا امتداد لتلك "العربات" التي ساقها جدعون ضد أعداء الرب، وفق روايتهم.
الصهيونية الدينية اليوم لم تعد تيارًا هامشيًا، بل صارت محرّكًا رئيسيًا للقرار الإسرائيلي، تحكم في الجيش والحكومة، وتغذّي خطابًا يُسوّق القتل كفريضة، والاستيطان كخلاص، والتهجير كتحقيق للوعد.
والمؤسسة العسكرية، التي تُفترض أنها علمانية، لم تعد تفصل بين المعركة والسيطرة الروحية، بل تحتضن الحاخامات في صفوفها، وتسمح للمستوطنين بنقل التوراة إلى ساحات القتال، ليباركوا الجنود قبل دخولهم غزة، تمامًا كما كان الكهنة يباركون جنود "يشوع بن نون" قبل اقتحام أريحا.
لكن أمام هذا الهوس التوراتي، يقف الفلسطيني بلحمه ودمه، لا كعدو في سفر قديم، بل كإنسان حي، صاحب حق، ومالك الأرض والتاريخ. يقاوم لا بوهم النبوءات، بل بيقين أن العدل لا يُصنع بنصوص الإبادة، وأن الحق لا يُلغى بآية مجتزأة من كتابٍ مقدس.
وإذا كانت إسرائيل تُعيد إحياء نصوص "الإبادة المقدسة"، فإن فلسطين تكتب كتابها بدم الشهداء: لا قداسة فوق الركام، ولا خلاص على أنقاض الأطفال. وإن كان الرب بريئًا من سفك الدماء، فإن من يستخدم اسمه لتبرير القتل، إنما يعبد القوة لا الإله.
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS