القسام تزف شهيدها "أبو عبيدة".. من هو صاحب الصوت الذي أرعب الاحتلال وجلد الأنظمة المتخاذلة؟
بعد سنوات طويلة سمع العالم فيها صوته من خلف اللثام، يخرج بإسم الناطق باسم كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس إلى العلن، ويعرف الناس صورته واسمه وقصته، لكن هذه المرة شهيداً، كحال قافلة طويلة من المقاومين الذين رأى العالم فعلهم ضد الاحتلال، ولم يعرفوا إلا بعد استشهادهم، كأن من الخفاء تسطع الأفعال الكبيرة.
ولد حذيفة الكحلوت الذي عرفه الناس لسنوات باسمه الحركي في كتائب القسام (أبو عبيدة)، في 1984، في السعودية، حيث كانت عائلته تعيش، وتعود أصولها إلى قرية نعليا قضاء عسقلان، التي دمرتها العصابات الصهيونية، في 1948، كحال مئات التجمعات والبلدات الفلسطينية، وعاد في طفولته إلى مخيم جباليا شمال قطاع غزة، والتحق لاحقاً بالجامعة الإسلامية ليدرس الشريعة وأصول الدين.
امتلك أبو عبيدة إمكانات خطابية عالية، وقدرة على نقل صوت المقاومة للناس، وتحول مع الوقت إلى أحد رموزها العالمية التي رسخت في الوعي الشعبي والجماعي، حتى صار تقليداً لدى مناصري فلسطين وفتيانها تقليد اللثام الذي يلبسه للتعبير عن حبهم للمقاومة، وتحولت الكلمات التي قالها في خطاباتها طوال سنوات إلى أيقونات وشعارات شعبية، وجمع مع الخطاب الحماسي والمعادي للاحتلال في صيغة عسكرية بوصفه الناطق الرسمي باسم كتائب القسام، مصداقية في تقديم صورة المعركة مع الاحتلال وتفاصيلها، وتحليل الأجواء المحلية والعربية والعالمية المحيطة بالنضال ضد الاحتلال، وقدرة على مخاطبة الشعوب العربية والإسلامية والنشطاء في العالم وحشدهم للمواجهة، وأصبح في المخيال الجماعي للمستوطنين ومعهم المؤسسة العسكرية والسياسية، في دولة الاحتلال، أحد الرموز التي سعى للتخلص منها لما له من ثقل في المعركة الإعلامية والحرب النفسية.
اللاجئ الذي عرف ظلم الاحتلال من أزقة المخيم وحكايات العائلة والواقع الذي ترعرع فيه، انضم إلى كتائب القسام في بدايات شبابه، في الفترة الأولى من انتفاضة الأقصى التي انطلقت، في أيلول/ سبتمبر 2000، وفي معركة "أيام الغضب" التي خاضتها الكتائب مع الفصائل العسكرية للمقاومة، في مواجهة اجتياح جيش الاحتلال لشمال غزة، في 2004، كان الظهور الإعلامي الأول لأبي عبيدة، في مؤتمر صحفي داخل مسجد في غزة، أعلن فيه عن سلسلة عمليات للمقاومة، وبدأ رحلته في الإعلام العسكري للمقاومة.
منذ الإعلان عن أسر الجندي جلعاد شاليط من دبابته، شرق رفح، في صيف 2006، حتى الإعلان التاريخيّ عن أسر كتائب القسام للجندي شاؤول أرون خلال كمين قاتل لقوة من نخبة جيش الاحتلال، في المناطق الشرقية من غزة، خلال معارك حرب 2014، أصبح أبو عبيدة يحمل صوت إنجازات المقاومة الفلسطينية مع بقية ناطقي الفصائل الأخرى، التي تقاتل الاحتلال في ظروف بالغة القسوة والتعقيد، ونجحت في تطوير قدرات عسكرية رغم الحصار والحروب المستمرة.
في كل المراحل والحروب التي خاضتها المقاومة، في غزة، في العقدين الماضيين، كان أبو عبيدة يواجه رواية الاحتلال، ويفضح جرائمه وجبن جنوده وضباطه أمام المقاتلين وإجرامهم بحق الأطفال والمدنيين، ويحشد الناس حول المقاومة، ويشجع الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس والداخل والشتات على الانضمام للمعركة، ويسلط الضوء ويحلل معطيات المواجهة مما أكسبه مصداقية عالية حتى في مجتمع المستوطنين، الذي صارت كلمة يقولها فتى فلسطيني "أبو عبيدة بديرخ/ أبو عبيدة في الطريق" تثير غضبه.
في الساعات القليلة الأولى من انطلاق معركة "طوفان الأقصى"، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، التي مثلت محطة مفصلية في تاريخ المواجهة مع الاحتلال، في فلسطين، وعلى مستوى المنطقة والعالم، وأصبح في الواقع ما قبلها ليس كما بعدها، انطلقت البلاغات العسكرية لأبو عبيدة، وأعلن عن نجاح كتائب القسام في تحقيق هزيمة عسكرية واستخباراتية بقوات الاحتلال، وسيطرتها على مساحات من مواقع عسكرية ومستوطنات في المنطقة التي يسميها الاحتلال "غلاف غزة"، وهي القرى والبلدات التي هجرتها العصابات الصهيونية، في 1948، وبينها بلدة عائلة أبو عبيدة، وكشف في خطاب بعد أيام من انطلاق المعركة عن تفاصيل الخطة العسكرية التي نفذتها كتائب القسام في هجومها على مواقع "فرقة غزة".
وجه أبو عبيدة في خطاباته، خلال شهور المعركة، التي أصدرها رغم الخطر الشديد والملاحقة المستمرة من قبل أجهزة الاحتلال المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية وقوى غربية وعالمية، وتملك أجهزة وتكنولوجيا تجسسية فائقة، صوت غزة لبقية تجمعات الشعب الفلسطيني، وللأمة العربية والإسلامية، ولأحرار العالم المناصرين لفلسطين، وبقي حتى آخر خطاباته يحرض على الانضمام للمعركة لمواجهة إجرام الاحتلال.
وأعلن الاحتلال أن أبو عبيدة من أهدافه المركزية، في الحرب، وكان لخطاباته صدى بالغ الأهمية، بين المستوطنين، بعد أن كان صوت بطولة المقاومين الذين كبدوا جيش الاحتلال خسائر فادحة، رغم ضعف الإمكانات والحصار، والإجرام الإسرائيلي الذي بلغ مستويات من الوحشية غير مسبوقة.
ومثل أبو عبيدة (السوط) الذي جلد الأنظمة والنخب والعلماء الذين تقاعسوا عن نصرة غزة، في وجه حرب الإبادة الجماعية، وأثقلت كلماته بالخيبة منهم، بعد أن وصل الاحتلال مراحل من الإجرام وحرب التجويع قتل فيها عشرات آلاف الأطفال والنساء والمدنيين، دون تحرك جاد من هذه الفئات، وصارت كلمته "لا سمح الله" التي قالها في خطاب عتب للحكام والعلماء جملة شعبية تختصر كل الهيبة الفلسطينية من صمت المحيط والعالم عن الإجرام الإسرائيلي.
وحرص في الوقت ذاته على شكر المقاومين الذين انضموا للمعركة، في الضفة والقدس والداخل، وجبهات المقاومة في لبنان والعراق واليمن وإيران، ومنفذي العمليات الذين عبروا الحدود من الأردن ومناطق أخرى من العالم، والتأكيد على وحدة فصائل المقاومة في الميدان.
ورغم الألم والمجزرة المفتوحة التي طالت آلاف الفلسطينيين بينهم عائلته الشخصية، كان يتحدى الاحتلال ويتوعد جنوده بمصير مشؤوم في غزة، ويؤكد على ثباتها في القتال، وتضحياتها دفاعا عن الشعب الفلسطيني والمقدسات، وفي طريق الحرية.
وإن رحل أبو عبيدة شهيداً وهو الذي نعى قافلة من القادة والمقاومين شهداء، إلا أنه أصبح أيقونة جماعية ارتفعت في مكان خالد من الذاكرة الجماعية، وعباراته التي رددها في الخطابات خاصة في معركة "طوفان الأقصى" في الوعي الجماعي، مثل : "أما وَالّذِي رَفَع السَّماءَ بِلا عمد فَإنَّ نَوَاطِحَ غَزَّة تَنتَظِرُكُم تَحمِلُ المَوتَ الزُؤام وَسَيَرَى العَالَمَ جَمَاجِمَ جُنُودِكُم يَدُوسُها أَطفَالُ غَزَّة بِأَقدامِهُم الحافيَة"، "سلام عليكم يا أبناء شعبنا بما صبرتم ورابطتم في وجه الطغيان"، و"جنائز وجثث جنود العدو ستصبح حدثًا دائمًا ومستمرًا بإذن الله طالما استمر عدوان الاحتلال وحربه المجرمة ضد شعبنا"، و"مقاومة غزة أعظم مدرسة عسكرية لمقاومة شعب في مواجهة محتليه في التاريخ المعاصر"، "يا حثالة الأمم.. لن تكون غزة إلا كما كانت دومًا، مقبرة لغزاتها… وإنه لجهاد، نصرٌ أو استشهاد"، "يا قادة هذه الأمة الإسلامية والعربية ويا نخبَها وأحزابَها الكبيرة وعلماءَها أنتم خصومنا أمام الله، أنتم خصوم كل طفل يتيم وكل ثكلى، وكلِّ نازح ومشرّد ومكلوم وجريح ومجوَّع".