كسر السهم الواقي
الإسرائيلي
شرحبيل الغريب
وكالة القدس للأنباء(قدسنا) شرحبيل الغريب: نتنياهو وحكومته وضعا هدفاً رئيساً لترميم قوة الردع، واتخذا اغتيال كبار القادة العسكريين من سرايا القدس وسيلة لتحقيق ذلك، لكن الرياح جاءت بما لا تشتهيه السفن.
بصورة مباغتة، شنت "إسرائيل" غاراتها، بطريقة مركَّزة غادرة، على قطاع غزة، أسفرت عن اغتيال ثلاثة من قادة سرايا القدس، الذراع المسلَّحة في حركة الجهاد الإسلامي، إلى جانب زوجاتهم وعدد من أبنائهم. تبعه مسلسل من الجرائم وسفك دماء المدنيين الفلسطينيين الأبرياء على مدار خمسة أيام متتالية، وصفها بنيامين نتنياهو بالإنجاز الكبير أمام حلفائه في الائتلاف الحكومي والمعارضة الإسرائيلية، لكن سرعان ما ارتد عليه بعد خمس وثلاثين ساعة في معادلة صمت فرضتها غرفة العمليات المشتركة للمقاومة الفلسطينية، جعلت "إسرائيل" تعيش ساعات ثقيلة، ثم فتحت فوهة النار انتقاماً وثأراً لدماء القادة والشهداء.
اعتقد نتنياهو، ومن خلفه ائتلافه الحكومي، أن تنفيذه عملية السهم الواقي سيكون بوابة "إسرائيل" من ؟أجل عودة سلاح الاغتيالات بحق قيادات المقاومة الفلسطينية بهدف استعادة قوة الردع وهيبة "إسرائيل"، التي تأكَّلت كثيراً، وخصوصاً بعد إطلاق الصواريخ في اتجاه الأراضي المحتلة من جبهتي لبنان وسوريا وقطاع غزة مؤخراً، على رغم القناعة التي عبّرت عنها أوساط إسرائيلية، ومفادها أن هذه السياسة لن تنجح في تحقيق أهدافها جذرياً، وهي إجراء موقت لن يصمد مفعوله طويلاً.
فاجأت المقاومة الفلسطينية نتنياهو وائتلافه اليميني المتطرف بالردّ على استئناف سياسة الاغتيالات في ارتكاب جريمة الاغتيال، وفق تكتيك اتبعته للمرة الأولى بعد كسرها معادلة الصمت القاتل، تكتيك التدرج الميداني حتى وصلت صواريخها إلى مشارف "تل أبيب" وما بعدها، إذ شكلت حالة شلل كبيرة أطبقت على "إسرائيل"، وأدخلت ما يقرب من مليوني مستوطن إسرائيلي للملاجئ، وكشفت وَهْمَ الإنجاز الذي تباهي به نتنياهو بعد الضربة الأولى.
تاريخياً، ثمة حقيقة ثابتة في معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تجاه سياسة الاغتيالات، التي كانت تمارسها "إسرائيل" بحق المقاومين منذ اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987، وهي أن الاغتيالات الإسرائيلية كانت تنفَّذ بوتيرة يومية ضد المقاومين، إلّا أن الذي أحدث فارقاً كبيراً في المعادلة هو نجاح المقاومة في مراكمة القوة ودخول منظومة الصواريخ في الخدمة لديها، وبما شكلته من قوة ردع على مدار أعوام، جعل "إسرائيل" تتراجع عن هذا المسار بصورة كبيرة، ولا تقدم عليه إلّا في إطار تصدير الأزمات الداخلية أو الحروب الكبرى.
الحقيقة الأخرى، التي أُقرَ بها في اليوم الثاني من معركة "ثأر الأحرار"، والتي جاءت على لسان عوفر شيلح، الرئيس السابق للجنة العقيدة الأمنية في الكنيست الإسرائيلي، والتي تعكس مخاوف "إسرائيل" الكبيرة وقلقها من المواجهة مع المقاومة وقدرتها على إيجاد حل نهائي وجذري لمنظومة صواريخ المقاومة، إذ يقول: "أقرت قيادة الجيش الإسرائيلي عام 2018 مخططاً تبادر بموجبه ألوية الصفوة وقوات النخبة، يساندها سلاح الجو في بداية أي حرب ضد غزة، إلى الانقضاض على منصات الصواريخ في قطاع غزة، لكن، تم التراجع عن تطبيق المخطط بفعل المخاوف والشكوك في أن تسفر هذه العمليات عن نتائج محدودة". وهذه المخاوف، ومعها الإخفاق الكبير، ثبتت عملياً خلال معركة "ثأر الأحرار" وتبتت حال العجز التي بدت "إسرائيل" فيها عن إيجاد حل للرشقات الصاروخية التي تنطلق في اتجاه أهداف قريبة وبعيدة المدى، وهو ما يُثبت مزيداً من تأكُّل قوة الردع الإسرائيلية، ويعزز ذلك ما صرح به كلٌّ من آفي بنياهو، الناطق السابق بلسان جيش الاحتلال في مقال نشرته صحيفة "معاريف"، والمعلق العسكري في صحيفة "هآرتس" عاموس هارئيل، اللذين أجمعها على أن "إسرائيل" لم ولن تملك حلاً لما سمَّياه، وفق رؤيتهما، معضلة مقاومة قطاع غزة.
نجحت غرفة العمليات المشتركة، التي أدارت معركة "ثأر الأحرار" بصورة موحَّدة، في تحقيق مجموعة إنجازات خالفت توقعات "إسرائيل" على مدار أيامها، في لحظة كان يعتقد نتنياهو أن حركة الجهاد الإسلامي سترد رداً عاطفياً سريعاً وتنتهي المسألة بتدخلات ووساطات عربية وأممية، إذ سجّلت المقاومة نجاحاً كبيراً في استنزاف الجبهة الداخلية الإسرائيلية لعدة أيام. وهذه استراتيجية انتهجتها المقاومة بصورة غير مسبوقة لم يتوقعها الاحتلال الإسرائيلي من قبل.
أثبتت المقاومة أنها خاضت معركة "ثأر الأحرار" منذ اللحظة الأولى بوحدة الموقف في أبعاده المتعددة، عسكرياً وإعلامياً وسياسياً، في مواجهة جرائم الاحتلال وغاراته. كما نجحت في إفشال مخطط الاستفراد بحركة الجهاد الإسلامي، إذ إن الميدان، برشقاته الصاروخية الموجَّهة، أثبت أن التنسيق العالي بين كل قوى المقاومة في فلسطين كان وما زال في أعلى مستوى. كما سجلت المقاومة عبر تكتيكاتها إثبات الفشل لمنظومة القبة الحديدية في مواجهة منظومة صواريخ المقاومة، الأمر الذي اضطر "إسرائيل" إلى إدخال منظومة مقلاع داوود المخصصة لاعتراض الصواريخ البالستية لإسقاط صاروخ جديد استهدف عمق مدينة "تل أبيب" بما يبعد عن قطاع غزة 70 كيلومتراً.
منذ بداية معركة "ثأر الأحرار"، التي أعلنتها غرفة العمليات المشتركة للفصائل الفلسطينية للرد على اغتيال ثلاثة من أعضاء المجلس العسكري في سرايا القدس، لوحظ، بصورة كبيرة، تجنب كل من رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت ورئيس جهاز الشاباك رونين بار ذِكْرَ حركة حماس والتصادم المباشر معها، إذ وصل الأمر إلى تأنيب نتنياهو لأحد وزرائه ومنعه من التصريح بعد أن هدّد باغتيال قائد كتائب القسام محمد الضيف ورئيس حركة حماس في قطاع غزة يحيى السنوار، وهو ما يفسر أن نتنياهو يخشى خشيةً كبيرةً لحظةَ التصادم المباشر مع حركة حماس، واحتمال الذهاب إلى حرب شاملة ومفتوحة وتحمل عواقبها، وهذا ما يمكن أن نسمّيه وفق الاستراتيجية العسكرية بتوازن الردع القائم، وأن هدف نتنياهو من المواجهة هو ترميم الردع المفقود بمحاولة الاستفراد بحركة الجهاد الإسلامي، وهذا واضح من خلال الاستهداف المركز عليها وعلى قيادتها.
مرور أيام من المواجهة مع استمرار وتيرة إطلاق الرشقات الصاروخية للمقاومة، أمام إعلان نتنياهو منذ اللحظة الأولى لاغتيال القادة أن هدف ما يجري هو ترميم صورة الردع لـ"إسرائيل" وقوته، يعكس فشلاً كبيراً في تحقيق الأهداف الإسرائيلية، ويجعل نتنياهو في ورطة أمام معطيات إسرائيلية داخلية، أبرزها الجبهة الداخلية التي لن تستطيع الصمود في معركة طويلة، ومطالبات المعارضة الإسرائيلية بضرورة وقف المواجهة، والخسائر الاقتصادية المترتبة من جراء هذه المواجهة.
نتنياهو وحكومته وضعا هدفاً رئيساً لترميم قوة الردع، واتخذا اغتيال كبار القادة العسكريين من سرايا القدس وسيلة لتحقيق ذلك، لكن الرياح جاءت بما لا تشتهيه السفن، إذ ضربت المقاومة بصواريخها العمق الإسرائيلي، وهو ما لم يكن يتوقعه نتنياهو ومن معه، الأمر الذي يعني أن المقاومة لم ترتدع، وفي كل يوم من أيام المواجهة تعلن جاهزيتها وقدرتها على مواصلة المعركة، بدرجة عالية من الحكمة والكفاءة والاقتدار، ولم تتأثر باستهداف قادتها العسكريين وخروجهم من مسرح المواجهة، بل سجلت أن هناك فارقاً كبيراً بين النجاح في تنفيذ الوسيلة، والنجاح في تحقيق الهدف.
"إسرائيل" ستخسر كثيراً بعد هذه المعركة، أمنياً واقتصادياً، وستطال الخسارة أصعدة أخرى سياسية، فأول ما ستخسره اقتصادياً هو المليارات من الدولارات بعد فشل منظومة القبة الحديدية في اعتراض صواريخ المقاومة، التي وصلت إلى العمق الإسرائيلي. فالدول التي رغبت في شرائها ستتراجع بعد هذا الفشل الكبير.
أمّا على الصعيد الأمني، فراهنت "إسرائيل" في توظيف العدوان على قطاع غزة من أجل فرض معادلة ردع جديدة، وإملاء قواعد اشتباك لها عبر التوسع في شرعنة الاغتيالات واستهداف بيوت المدنيين الآمنين، إلّا أنها اصطدمت بالأصوات التي بدأت تعلو داخل "إسرائيل"، والتي تطالب بضرورة سرعة وقف المواجهة مع المقاومة في قطاع غزة. وهو ما يعكس قناعة وإدراكا كبيرين، مفادهما أن رهانات نتنياهو وحلفائه على ترميم الردع هي رهانات خاسرة، ولم تحقق استعادة قوة الردع وترميمها، بل أفضت إلى مزيد من التأكُّل في قوة الردع، وأن السهم الواقي الذي أطلقوه لن يوقف تأكُّل الردع الإسرائيلي، في ظل صمود المقاومة وأدائها المتميز، وفشل "إسرائيل" في كسر إرادتها. وعليه، يكون نتنياهو وحكومته خسرا هذه المعركة قبل انتهائها، وكُسر سهمهما المزعوم، وسيخرج نتنياهو منها أضعف كثيراً مما كان عليه قبل دخولها، بل سيؤثّر ذلك في مستقبله السياسي، ويصبح في مهبّ الريح.
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS