qodsna.ir qodsna.ir

صفقة القرن؛ بين القراءات السّياسية وحقيقة الأبعاد الدّينية

أ.حمدادوش ناصر

وكالة القدس للانباء(قدسنا) أ.حمدادوش ناصر*:  لا نحتاج إلى لمسةٍ من الذّكاء حتى نكتشف العُدّة الإيديولوجية المكثّفة والأبعاد الدّينية المركّزة والخلفيات العقائدية الصّارخة المنتِجة لصفقة القرن بهذه الجرأة الممجوجة. وبالرّغم من رمزية موعد إعلان هذه الصفقة، الجديدة في تسميتها القديمة في مضامينها، وما تحمله من دلالات تسويقية بالصّبغة السّياسية والمصلحة الانتخابية لترامب والنّاتن - ياهو، ومظاهر الحسابات التي خرجت من رحمها، والحاجة الملحّة لإبرامها بينهما في هذا التوقيت بالذّات، إلاّ أنّ التعاليم الدّينية لليهودية وللمسيحية الصهيونية المصمّمة من التوراة والإنجيل قد تعالت على الجميع في هذه الصّفقة لتكشف عن وجهها القبيح، وأنّها حسمت في هويّة الصّراع بأنّه دينيٌّ وليس سياسيًّا، وقد ظهر في خطاب الصّفقة أنّ نتنياهو سيّدُ ترمب من النّاحية الدّينية، لأنّ التوراة سبق الإنجيل، والتوراة هي مرجعية المسيحية الصهيونية.

 

صحيحٌ أنّ ترامب غارقٌ في أزماته وفي إجراءات عزله بتهمة التآمر والتخابر مع جهات أجنبية، وأنّ النّاتن ملطّخٌ كذلك بوَحْل أزماته في ملفات الفساد المتعلّقة بخيانة الأمانة وتلقي رشَى، وكلاهما قد ربط مصيره السّياسي بالآخر، وأنّ طوق النّجاة لهما هو الفوز بالانتخابات القادمة.                                                                                         

 

فترامب تنتظره عهدةٌ رئاسية ثانية في نوفمبر 2020م، والناتن كانت تنتظره الانتخابات التشريعية في مارس 2020م وتشكيل الحكومة بعدها.                                           

 

ومع ذلك فقد أصبح واضحًا أنّ عنوان فضيحة السّياسة الأمريكية بالانتقال من الأبعاد الجيوسياسية لدعم إسرائيل إلى الأبعاد الدّينية هو نفوذ اللّوبي الإنجيلي المسيحي في أمريكا، الذي يعتقد بوعد الرّب لليهود بالعودة إلى أرض الميعاد من أجل العودة الثانية للمسيح، وهو ما جعل الإدارة الأمريكية الحالية في سياق تبنّي المفاهيم الدّينية المشتركة بين هذه الطائفة الإنجيلية المتطرّقة وبين المنظمات اليهودية الأرثوذوكسية لأهدافٍ سياسية، وهو ما يترجم هذه الأخوّة الإيديولوجية بين الحركة الإنجيلية وواجهتها السياسية ترامب وبين الصهيونية الدّينية وواجهتها السياسية نتنياهو.                                                                       

 

وبالرّغم من الاعتقاد السّائد بأنّ إقرار السّلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين مهمّة شبه مستحيلة، وبالرّغم من إخفاقات مَن سبقهما في حلّ معضلة هذا الصّراع الوجودي إلاّ أنّهما يستمتعان بتحقيق أهدافٍ سياسية بخلفياتٍ ذات طابعٍ ديني محض.                            

 

والمتأمّل في المحيط المقرّب من ترامب وتعييناته الواضحة في إدارته سيلتفت أكثر إلى الأبعاد الدّينية في شخصيته، فلا يتفاجأ بهذا الانحياز الكلّي في خياراته السّياسية والدّينية لصالح الكيان الصهيوني، ممّا أظهر أمريكا في دورها الوظيفي الرّخيس، ويدرك بكلّ بساطةٍ هذه الخلفية الدّينية لتوجّهاته السياسية.                                                                 

 

فنائبه بينس ومستشاره زوج ابنته كوشنير ووزير خارجيته بومبيو وسفيره في الكيان الصّهيوني فريدمان كلّهم من أقصى اليمين المتطرّف ومن المولَعِين بإسرائيل، ممّا جعل إدارته أكثر صهيونيةً من العدو الصهيوني نفسِه، وهم الذين يعتنقون فكرة (أنّ الله قد أرسل ترامب لإنقاذ إسرائيل من التهديدات)، في وقتٍ قال فيه نائبُه بينس: (شغفي بإسرائيل ينبع من إيماني المسيحي.).                                                                                  

 

وأنّ النّاخبين الأصليين لفوز ترامب سنة 2016م - والذين يعوّل عليهم في الانتخابات القادمة - هم من الحركة الإنجيلية بنسبة 81%، لسبب رئيسي وهو الوَعد الثابت في برنامجه وحملته الانتخابية بجعل القدس عاصمة موحّدة لإسرائيل ونقل السّفارة الأمريكية إليها واعتبار حائط البراق جزءً من إسرائيل، وهو ما وَفّى به خلال هذه العهدة. وهو ما اعتُبر تحوّلاً نوعيًّا على الأرض، للرّمزية الدّينية والدلالة العقدية لها، وهي بالنسبة إليهم تتجاوز الأبعاد السّياسية والديبلوماسية، وتلامس حقيقة الأبعاد الدّينية بعودة المسيح وإقامة حكومة الرّب في القدس وفق نبوءاتهم في الكتاب المقدّس، ليقفز ترامب وبكلّ جنونٍ إلى ترسيخ القناعة بأنّه رجلُ الله الذي يدفع بالتاريخ نحو الأمام، إيذانًا بنهاية العالم وظهور المسيح المخلّص.                                                                                                 

 

وتضفي الحركة الإنجيلية في أمريكا طابعًا دينيًّا على أيّ دعم لإسرائيل، وتختبئ وراء تفسيراتٍ دينية وفلسفية عميقة بشأن دعمها لليهودية، ومنها ما قاله أحد أبرز المنتمين إليها وهو القسّ المسيحي "جون هيجي": (بأنّ اليهود سببُ وجود المسيحية، وأنّ اليهودية لا تحتاج للمسيحية لتفسير وجودها، بينما تحتاج المسيحية لليهودية لتفسير وجودها وإلى الكثير من التفسيرات التي تروّج لها الحركة الإنجيلية)، وقد كلّفه ترامب بتدشين مبنى السّفارة الأميركية الجديدة في القدس، وهو الذي سبق له أن قال على منبر الأيباك: (لقد استيقظ العملاق النّائم للصّهيونية المسيحية، فهناك خمسون مليون مسيحي يقفون ويُشِيدون بدولة إسرائيل.).                                                                                                  

 

وهذه الحركة الإنجيلية هي تيارٌ ديني متطرّف، يصل عدد المنتمين إليها إلى 50 مليون أمريكي من الطائفة البروتيستانتية المتأثرة بالحركة المسيحية الصهيونية، ويُقصد بها جميع الطوائف المسيحية البروتيستانتية، وهي أكبر كتلةٍ مسيحيةٍ في أمريكا، والتي تعود أصولها إلى القرن 18، وقد انخرط العديد من اتباعها في اليمين المسيحي المتصهين المتقاطع فكريًّا والمتماهي سياسيًّا مع الصهيونية الدّينية، وهناك فاعلية كبيرة في تأثير المسيحية الصهيونية على السّياسة الأمريكية، وخاصة في السّياسة الخارجية، وتحديدًا في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، لارتباطها بمعتقداتٍ دينيةٍ حول القدس والمسجد الأقصى، ممّا يعزّز هذه العلاقة الاستثنائية بين أمريكا وإسرائيل، ويعطي لصفقة القرن بُعدًا دينيًّا أكثرُ منه سياسيًّا.

 

وعلى خلاف ما تبدو عليه شخصية ترامب بأنّه رجل تجارة ومال، فإنه يعتبر نفسه بطلاً قوميًّا لليمين المسيحي، وهو الذي لا يملّ من تكرار عبارته المعهودة: (أؤمن فعلاً بأنّ الله إلى جانبنا.).                                                                                             

 

ووفقاً لاستطلاع الرّأي الحديث الذي أجراه معهد أبحاث الدّيانة العام فقد أبدى 77% من الجمهوريين الإنجيليين البيض رضاهم عن أداء ترامب، ويعارض 98% منهم محاكمته وعزله من منصبه، لأنه الرئيس الأكثر طمأنة لهم على هويتهم واستمرار وجودهم، بعد هزّة تراجعهم في أمريكا، وهو ما يترجم هذا التقارب المتطابق بين الخيارات السّياسية لترامب وبين معتقدات هذه الطائفة الدّينية، وأنّ ضرورات الدّين والسّياسة والمال تقتضي البراغماتية العالية منه لاسترضائهم، فهو الذي يسكنه الرّعب بفقدان دعمهم له للفوز بولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية القادمة خلال هذه السّنة.                                                 

 

تنص الصّفقة، والتي تأتي في حوالي 180 صفحة – والتي تعتبر عرضًا غير مسبوق وهي الأكثر سخاءً للكيان الصهيوني – على منح السّيادة الكاملة لإسرائيل على القدس، بما فيها المدينة القديمة وحائط البراق، واعتبارها عاصمة موحّدة للشّعب اليهودي ووطنًا قوميًّا له، وضمّ غور الأردن ومستوطنات الضّفة الغربية (100 مستوطنة) وعدم اعتبارها أراضٍ محتلةٍ أو مستوطناتٍ مخالفةٍ للقانون الدولي، والاعتراف بيهودية الدولة، وهو ما يؤكد على الطابع الدّيني والبعد العنصري لهذه الصّفقة.                                                   

 

وبالمقابل يتمّ منح الفلسطينيين دولةً رمزيةً بلا حدود، تكون عاصمتها بلدة أبوالدّيس في الشريط الخارجي للقدس الشّرقية (06 كلم عن حدود 67)، ولا حرج بإعادة تسميتها بالقدس، تكون هذه الدولة منزوعة السّلاح وبلا سيادة، مع نزع سلاح المقاومة في غزة، وتغيير المناهج التعليمية التي تدعو إلى العنف والكراهية والتحريض ضدّ الآخرين، والمقصود بها إحداث إصلاحات في المنظومات التربوية لدى الدول العربية، ونزع كلّ الآيات والأحاديث التي تتحدّث عن اليهود وعن الجهاد والاستشهاد، فيقاتلوننا بالتوراة والإنجيل، ويريدوننا نزع القرآن الكريم من صدور الرّجال وتغريب الأجيال.                       والله تعالى يقول: "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يرُدُّوكم عن دينِكم إن استطاعوا.." (البقرة:217).

 

* نائب في البرلمان الجزائري