الثلثاء 14 شوال 1445 
qodsna.ir qodsna.ir

تقویض الصهیونیة: الداخل والخارج

هناک مثل إنجلیزی یقول: "دفن الشخص رأسه فی الرمل". ویعبر هذا المثل عن محاولة الشخص تجنب معرفة ومواجهة الحقیقة. وقد یکون لهذا المثل أصول فی اللغة العربیة مثل کثیر من الأشیاء والمقولات الموجودة فی الغرب. وکیف لا؟ فالرمل الذی نعرفه فی انجلترا هو الرمل الرطب المبتل على الشواطئ التی تصفر فیها الریاح. المهم هنا أن هذا المثل یصف بدقة ما حدث فی الانتخابات الإسرائیلیة فی 2006. فقد بدا جلیا أن الناخبین الإسرائیلیین اعتقدوا أنه بإمکانهم الاختباء خلف جدار الفصل العنصری والقوة العسکریة وأن هذا سیؤدی هکذا من تلقاء نفسه لإلغاء وجود الفلسطینیین، والعرب، وحماس، والحرکة الإسلامیة عموما.

لکن ولکی نفهم الصورة بشکل أوضح، فإن ذلک یتطلب الرجوع إلى التاریخ وبالذات إلى مرحلة إعداد الکادر الصهیونی على مدى المائة سنة الماضیة. لقد تشکل هذا الکادر مع انحلال الإمبراطوریة الإقطاعیة لروسیا القیصریة. وجاءت معظم موجات الهجرة الأولى من الیهود إلى فلسطین من أوروبا الشرقیة، التی کانت واقعة تحت حکم الإمبراطوریة القیصریة، حیث عاشت الغالبیة العظمى من الیهود. وعندما اجتاحت حرکات العصیان والتمرد هذه الإمبراطوریة، قرر القیصر أن یلقی باللوم على الیهود وأن یحملهم المسئولیة، فعمل على توجیه حملات فاشیة عنصریة قاسیة ضدهم. وهذا ما دفع الملایین من الیهود إلى الهجرة، وهی التی توجهت أساسا إلى أوروبا الغربیة وأمریکا الشمالیة، بینما هاجر آخرون أقل إلى فلسطین. لکن کان هناک أیضا ملایین من الیهود الذین بقوا لیقاوموا ویناضلوا ضد هذه الحملات. فی ذلک الوقت، قادت المقاومة منظمة العمال الاشتراکیین الیهود "البوند" (Bund)، وهی حرکة عمالیة کانت تعمل بشکل علنی ضد الصهیونیة. وفی المرحلة التی سبقت الثورة الروسیة فی عام 1905، کان تأثیر هذه الحرکة فی أوساط الیهود أکبر بکثیر من الأفکار الصهیونیة. وقد قامت الأحزاب الثوریة الروسیة آنذاک (مثل حزب الفلاحین الاشتراکی الثوری، وحزبی العمال الثوریین: البلاشفة والمناشفة) بالترحیب بالعمال الیهود وتأیید إصرارهم، بعد خلع القیصر، على المقاومة ضد السامیة والنضال من أجل حیاة أفضل لجمیع المواطنین فی أوروبا الشرقیة بغض النظر عن جنسیاتهم.

ویحمل ذلک معنى هاما، ألا وهو وجود جمهور یستقبل الأفکار المارکسیة حول الأممیة، والاشتراکیة، وأهمیة نضالات العمال. وقد انتشرت هذه الأفکار بشکل واسع بین الیهود، حتى أن کثیرین من الیهود المهاجرین الذین تأثروا بها حملوها معهم إلى فلسطین. فی هذه الفترة کانت دعوة القیادة الصهیونیة تبدو أنها مبنیة على التظاهر بأن فلسطین کانت أرض بدون أصحاب وأنها "أرض المیعاد" للیهود، وکان هذا یعنی أن الیهود المهاجرین لم یتم إخبارهم بأن العرب الفلسطینیین قد أجبروا على إخلاء أرضهم لتوفیر مکان للمستوطنین الجدد. وکان الغضب الشدید هو رد الفعل لهذه الخدیعة من قبل بعض الیهود المهاجرین، وقد أرادت الأقلیة المارکسیة منهم أن تعلن تضامنها مع أخوتهم العرب، مما أغضب القیادة الصهیونیة ودفعها إلى التعامل بعنف مع هذه المجموعة. ومما زاد غضب القیادة الصهیونیة وعنفها الدعم الذی قدمه الیهود الاشتراکیون فی عام 1906 لاعتصام العمال العرب فی إحدى القرى، وتظاهرهم ضد تجویع العمال العرب وانخفاض الأجور. منذ ذلک الحین، انتهجت القیادة الصهیونیة منهجا جدیدا یقوم على بث رسائل عنصریة للفصل بین العرب والیهود، فطالبت أصحاب العمل بالتوقف عن توظیف واستخدام العمال العرب، کما طلبت من النقابات العمالیة عدم ضم العمال العرب، وطالبت أیضا ربات البیوت بعدم التعامل مع الفلاحین والمزارعین العرب، وعدم شراء الخضار والفاکهة منهم. لکن لا یمکن لأحد القضاء على الأفکار أیما کانت، فالکراهیة الشدیدة للعرب والمتأصلة فی المشروع الصهیونی، بقیت تستفز المشاعر الإنسانیة لأقلیة من الیهود فی فلسطین وتدفع بإتجاه نمو التراث الرادیکالی.

تونی کلیف نموذج للفلسطینی الیهودی

ولد تونی کلیف، أو إیجال جلاکشتاین، مؤسس تیار الاشتراکیة الأممیة، لعائلة صهیونیة فی فلسطین. وعندما کان طالبا فی المدرسة کتب موضوعا تساءل فیه حول سبب عدم وجود طلاب عرب فی مدرسته. کان رد فعل المدرس أن وصفه بالشیوعی، ولم یکن کلیف قد سمع بهذا المسمى من قبل ولهذا بدأ بالبحث عن معناه. واکتشف فی مراحل لاحقة أن هناک شیء مختلف عن شیوعیة الاتحاد السوفییتی. کما اکتشف أن الصهیونیة والشیوعیة الحقیقیة یمثلان قطبین متناقضین. الشیوعیة التی تبناها کان لها معنى خاص فی فلسطین، فقد کانت تعنی دعم العرب فی نضالهم ضد الإمبریالیة البریطانیة التی تحکم فلسطین، وکذلک النضال ضد قیام الدولة الصهیونیة، أما على المستوى الشخصی فکانت بمثابة إعادة النظر فی الهویة، لیعلن بعد ذلک عن نفسه کفلسطینی یهودی.

اختار تونی کلیف الذهاب إلى بریطانیا بعد قیام دولة إسرائیل، وأسس هناک حرکة سیاسیة اشتراکیة جدیدة. وحول العالم کان هناک الآلاف ممن تحولوا عن الصهیونیة، وعبروا بقوة عن دعمهم للفلسطینیین. وکان هؤلاء هم القوة المضادة للتوجه السائد بین قیادات المجتمعات الیهودیة فی أوروبا الشرقیة وأمریکا، الذین انصاعوا وانقادوا وراء ما تفعله إسرائیل.

إسرائیل الآن: رافضو الخدمة

والسؤال الذی یطرح نفسه هنا: ماذا عن إسرائیل نفسها؟ وماذا عن التیار المساند للعرب بین الیهود الیوم؟ لعل أهم ظاهرة فی هذا السیاق، والتی تعبر بوضوح عن "حرکة السخط" داخل إسرائیل، هی ظاهرة "رافضی الخدمة"، وهم من الجنود الإسرائیلیین الذین رفضوا أن یخدموا فی الجیش الإسرائیلی فی الضفة الغربیة وغزة، وقد تعرضوا للسجن کنتیجة لعصیانهم وتمردهم. ومنذ عامین ظهر کتاب یحمل عنوان "رافضو الخدمة"، واحتوى على شهادات للعشرات من هؤلاء الجنود. لکن فی المرحلة الحالیة ومع تنامی قوة الأیدیولوجیة الصهیونیة لم یعد أی من الجنود مستعدا للتعبیر عن سخطه أو الانسلاخ تماما عن الإیدیولوجیة الصهیونیة. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الأغلبیة فی إسرائیل ما تزال ترى أن المشکلة بدأت مع احتلال 1967، بدلا من ربطها بالنکبة وطرد اللاجئین فی عام 1948. لکن المهم فی هذه الأحداث أنها تعبر عن امتعاض حقیقی مما أصبح علیه المجتمع الإسرائیلی، والرغبة الجادة فی إیجاد بدائل. فقد أصبحت الأغلبیة فعلیا من الناحیة العضویة والعاطفیة متضررة من العنف الذی کانوا یکرسونه ویحافظون على استمراره.

ولعل الصورة تصبح أکثر وضوحاً إذا استمعنا لأصوات هؤلاء الجنود وقرأنا وصفهم للحرب والمجتمع الإسرائیلی. ولهذا سنعرض لمقتطفات من کلام بعضاً منهم: "سیرجوا یانی" الذی سجن أربع مرات لرفضه المشارکة فی قمع الانتفاضة، قال: "هذه الحرب القذرة تقوم على مشروعیة القتل، تُذبح فیها النساء والأطفال، ویتم تدمیر البنیة التحتیة الاقتصادیة والاجتماعیة، وحرق الأراضی الزراعیة، واقتلاع الأشجار".

ویشرح "ألتمار شهار" لماذا یرفض الخدمة فیقول: "أنا أعلن أننی لم أعد مستعدا لخدمة قوات الدفاع الإسرائیلیة، فخمسة وثلاثون عاما من الاحتلال جعلت إسرائیل مجتمعا عنیفا وعنصریا، ونحن ندمر أیة فرصة متاحة لتحقیق السلام".

أما "مایر عمور" فیحکی فی شهادته عن أصوله فیقول: "نحن یهود، ولسنا مسلمین، لکن عائلتی عاشت فی المغرب مع العرب على مدى 50 سنة، العرب جزء من ثقافتی، أنا عربی یهودی، ولیس عندی أی تعقیدات حول ذلک، ولیست هذه فکرة رومانسیة، إنها حیاتی الأسریة، فنحن نتکلم العربیة ونسمع موسیقى عربیة ونأکل الطعام العربی، رغم أنی ضابط إسرائیلی فی الجیش، أحمل الیوم معی کل هذه التساؤلات".

ویعرض الکتاب أیضا لقصة "یوفال لوفان" الذی کان ملازما إسرائیلیا وعین بعد ذلک ضابطا فی السجن، فقد رفض أن یُسجن الناشطین الفلسطینیین بدون محاکمة، ودفع ثمن ذلک بأن سُجن هو نفسه. فی ذلک الوقت کان فی السجن عماد صبیح، العضو البارز فی الجبهة الشعبیة لتحریر فلسطین، الذی سمع عما فعله یوفال فکتب له رسالة تضامن تم نشرها بالکامل فی نفس الکتاب، وقد خلق هذا الموقف صداقة بینهما.

ولو فکرنا قلیلا فی شهادات هؤلاء الجنود المتمردین یمکننا رؤیتهم کمشروع حلفاء للفلسطینیین من جهة، وأیضا کمرکز کبدایة لتنامی السخط والغضب داخل إسرائیل من جهة أخرى. لکن هذا الأمر یطرح العدید من الأسئلة الهامة حول مدى قدرة هؤلاء الجنود على تخطی الحاجز الأخیر للانقسام؟ وإذا ما کان بإمکانهم رؤیة أنفسهم کجزء من مجتمع فلسطینی؟ من ناحیة أخرى هناک أسئلة حول مدى تقبل المجتمع الفلسطینی لهم؟ وکیف سیتعامل مع کل من کان إسرائیلیا؟ خاصة وأن أی حل حقیقی للأزمة یعنی عودة اللاجئین الفلسطینیین.

دولة فلسطینیة غیر صهیونیة

یقدم إدوارد سعید، المفکر الفلسطینی الذی توفی مؤخرا، رؤیة بسیطة ردا على هذه التساؤلات، فهو یرى أن الدولة الفلسطینیة غیر الصهیونیة، تمکن مواطنیها سواء أکانوا عرقیا عربا أم یهودا، أو کانوا یدینون بدیانات مختلفة، إسلامیة، أو مسیحیة، أو یهودیة، أو حتى أولئک الذین لا یدینون بأی دین، أن یعیشوا فی سلام، بشرط وحید هو وجود تعریف واضح وقانون منظم وفعال یحمی حقوق کل مواطن فلسطینی. لماذا نجد مثل هذا الاقتراح بعید عن فهمنا واستیعابنا فی القرن الحادی والعشرین؟ ألا یمثل بشکل ما بدایة لإحیاء الرؤیة الأممیة التی حملتها الأقلیة الیهودیة الاشتراکیة التی هاجرت إلى فلسطین قبل مائة عام ضمن المستوطنین الموجهین من قبل الصهاینة؟ وهل یتماشى هذا المقترح مع الرؤیة الشمولیة لغالبیة الواعیین سیاسیا من المناضلین العرب لتحریر فلسطین؟ أولیس ما فعله الضابط المتمرد "مایر عمور" الیهودی العربی الإسرائیلی، یمثل إشارة إلى وجود مساحة لإمکانیة أن یلعب ملیون إسرائیلی من الیهود ذوی الأصول العربیة دورا تقدمیا فی مرحلة التحول هذه.

لکن، ومن ناحیة أخرى، یجب ألا نکون سذجا. فمناقشة هذه الأفکار وطرحها بقوة من جانبنا لا یمکنها وحدها أن تجعلها واقعا، لکن وجود انتفاضة شعبیة قویة من المناضلین العرب، لا یمکن الوقوف فی وجهها، هی فقط القادرة على تحقیق ذلک.

وقد یکون من المفید هنا أن نقارن الوضع بما حدث فی جنوب أفریقیا. فالبیض ذوو الأصول الأوروبیة، کانوا قد أقسموا على ألا یتنازلوا عن امتیازاتهم التی تحمیها دولة الفصل العنصریة الموجودة آنذاک. لکن الغالبیة من السود تحرکوا وعبئوا الجماهیر فی المصانع والمدن، وفی عام 1980 أصبحت حرکتهم قوة لا یمکن النیل منها وإنهاؤها. وأصبح مطلب "صوت لکل شخص" (one person one vote) مطلب لا یمکن رده. وقد اکتشف البیض أنه بإمکانهم العیش مع هذا التغییر، قلة قلیلة منهم لم تستطع التأقلم فهاجرت بعد إنهاء حالة الفصل العنصری.

الطریق إلى تقویض الصهیونیة

والآن أین هی هذه الحرکة التی یمکنها أن تجبر القادة الإسرائیلیین على إنهاء الصهیونیة؟ إن حسابات الدیمقراطیة غایة فی السهولة، فلو أصبح فی فلسطین "صوت لکل شخص" بما فی ذلک کل اللاجئین وکل الإسرائیلیین، فالنتیجة واضحة ومسلم بها، ألا وهی نهایة الصهیونیة. ذلک أن الفلسطینیین یمثلون الغالبیة العظمى. وبالرغم من الاهتمام المفاجئ للإمبریالیة الغربیة "بالدیمقراطیة فی الشرق الأوسط"، فإن مثل هذه الانتخابات والتی تمثل التعبیر الوحید العادل للحق الفلسطینی لا یمکن أن تحدث أبدا. من هنا یجب أن نطرح السؤال مرة أخرى أین القوة الشعبیة التی لا یمکن مواجهتها والقادرة وحدها على تحقیق ذلک؟ یجب أولا أن نعترف أن الفلسطینیین وحدهم لا یمکنهم تحقیق ذلک، وکلنا أیضا نعرف أن القضیة الفلسطینیة هی قضیة العرب جمیعا، فکل العرب یحملون مرارة وخیبة أمل لا یمکن وصفها من الموقف الجبان والمتخاذل للحکومات العربیة من القضیة الفلسطینیة، ویریدون بکل الطرق تقدیم الدعم والمساندة، ولهذا فمن مصلحة الحکومات أن تکون حذرة، فالانتفاضة الثالثة هو ما نحتاجه لتقویض الصهیونیة، انتفاضة لا حدود لها تمتد من مصر إلى الأردن وما بعدها، مثل هذه الانتفاضة المتفجرة حتمیة إذا ما ظل الصهاینة مختبئین خلف جدار الفصل العنصری الذی یبنونه، وعندها وبصورة مفاجأة سنرى کیف أن الأفکار المناصرة للفلسطینیین ستنتشر داخل إسرائیل.

( المقال للبریطانی جون روز )

م/ ن/25


| رمز الموضوع: 142676







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. صواريخ المقاومة الفلسطينية تدك بشدة مستوطنات غلاف غزّة
  2. الصحة بغزة : 34183 شهيدا و77143 إصابة منذ بدء العدوان
  3. الشيخ نعيم قاسم: اسرائيل لا يوقفها الا السلاح و المقاومة
  4. أمير عبد اللهيان: يجب على الاتحاد الأوروبي ان يفرض عقوبات على الكيان الاسرائيلي
  5. حماس تندد بتصريحات وزير الخارجية الامريكي وتصفها بانها تتناقض مع الحقيقة
  6. أنصار الله تدعو القوات المسلحة اليمنية الى تصعيد عملياتها ضد الملاحة الصهيونية
  7. الرئيس الإيراني: الصهاينة يستغلون الخلافات بين الدول الإسلامية
  8. الصحة الفلسطينية: ارتفاع حصيلة العدوان إلى 34,151 شهيدا و 77,084 إصابة منذ السابع من اكتوبر
  9. الجبهة الشعبية: الرد الايراني يعد حدث مفصلي وهام سيؤسس لقواعد اشتباك جديدة في المنطقة
  10. السيد صفي الدين: المقاومة في غزة رغم المعاناة ما زالت قوية ومقتدرة
  11. قيادي في الجهاد الإسلامي: المقاومة لن تتنازل عن مطالب الشعب الفلسطيني المشروعة
  12. ضابط سابق بالجيش الأمريكي يصف الهجوم الانتقامي الايراني بانه عملية عبقرية واستعراضا للذكاء التكتيكي والاستراتيجي
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)