القدس حرب شاملة وعلى کل الجبهات

راسم عبیدات

تتسارع عملیات تهوید وأسرلة المدینة المقدسة على نحو غیر مسبوق، والأحزاب الصهیونیة بمختلف ألوان طیفها السیاسی یمیناً ویساراً، تتبارى وتتصارع حول من یقدم أکثر لأجل عبرنة المدینة وتهویدها وأسرلتها وطمس معالمها الحضاریة والدینیة والثقافیة والتراثیة العربیة والإسلامیة، وطرد وتهجیر سکانها العرب، فنتنیاهو فی خطابیه أمام الکنیست والکونغرس الأمریکی أکد على أنه لا مجال لتقسیم القدس، وأنها ستبقى موحدة وعاصمة أبدیة لدولة "الکیان الإسرائیلی"، ومن خلفه لیبرمان الذی قال إن الاستیطان سیتواصل فی مدینة القدس وبغض النظر عن الحرکة السیاسیة. ودعت لیفنی إلى عبرنة الأحیاء العربیة.

وقبل ذلک أقدمت الحکومة الإسرائیلیة على عبرنة شوارع المدینة العربیة، والحکومة الإسرائیلیة رصدت أکثر من مئة ملیون دولار لتهوید المدینة، بل بکل صلف وعنجهیة عقدت اجتماعها الأخیر فی القدس الشرقیة وقریباً من المسجد الأقصى، وصادقت کذلک على إقامة مئات الوحدات الاستیطانیة فی القدس، وأقرت توسیع مساحتها الجغرافیة شرقاً وجنوباً، لکی تضم إلیها الأحیاء الاستیطانیة الجدیدة.

وتتواصل کذلک الحفریات داخل أسوار المدینة وحول تلک الأسوار بغرض تغییر وطمس معالمها العربیة والإسلامیة، وعملیات الاستیلاء على المنازل وهدمها لم تتوقف للحظة واحدة، وأیضاً یتسارع على نحو جنونی التضییق على المقدسیین فی کل مناحی وشؤون حیاتهم، فالإغلاق یطال المؤسسات الفلسطینیة الشبابیة والخدماتیة والتعلیمیة والدینیة والریاضیة، تحت حجج وذرائع صلتها وعلاقتها بالسلطة الفلسطینیة أوالأحزاب والتنظیمات السیاسیة الفلسطینیة وطنیة ودینیة.

والاحتلال لا یرید للمقدسیین التقاط أنفسهم أو وضع الخطط والبرامج والاستراتیجیات للصمود والمواجهة، فهم یصحون کل یوم على هم جدید وإجراءات اسرائیلیة جدیدة، الهدف منها دفع المقدسیین الى الیأس والإحباط وفقدان الثقة وتشتیت جهودهم وطاقاتهم، وکذلک تطویعهم وکیّ وعیهم ودفعهم للتسلیم بالأمر الواقع، وأیضاً کسر إرادتهم وتحطیم معنویاتهم، وإلحاق الهزیمة بهم داخلیاً- أی هزیمة الذات الفلسطینیة.

وما یجری على جبهة التعلیم هو الأخطر، حیث حکومة الاحتلال تعمل لیس فقط على نشر ثقافة التجهیل والتخلف بین أبنائنا، بل محاولة تهوید وأسرلة وصهینة التعلیم، حیث وجهت دائرة المعارف العربیة وبلدیتها رسالة فی 7/ 3/ 2011 الى المدارس الخاصة والأهلیة فی القدس تطالبهم فیها بعدم شراء الکتب المدرسیة من أی مصدر آخر غیر بلدیة "القدس". والمسألة هنا لیست شکلیة فقط، حذف شعار السلطة الوطنیة الفلسطینیة عن أغلفة الکتب واستبداله بشعار بلدیة الاحتلال، بل هذا یستهدف الوعی للأجیال الفلسطینیة القادمة، وهنا تستهدف الثقافة والتاریخ والجغرافیا، حیث تعمد سلطات الاحتلال الى شطب وحذف کل ما یمت للوجود العربی والإسلامی فی تلک المناهج بصلة، والعبث بالجغرافیا والتاریخ الفلسطینی.

ولم تقتصر المسألة على ذلک، فالحکومة الإسرائیلیة ووزیر التربیة والتعلیم فیها العنصری "جدعون ساعار"، والذین یعملون على صهینة التعلیم فی الداخل الفلسطینی، من أجل منع بلورة هویة ثقافیة وقومیة فلسطینیة مستقلة، من خلال إخراج مصطلح النکبة من منهاج التعلیم العربی، وإجبار الطلبة العرب هناک بالتعلم عن المحرقة، وکذلک فرض مواضیع یهودیة على الطلبة العرب من الصفوف الرابع وحتى التاسع، فهم مجبرون على تعلم مواضیع عن الهویة والتراث الیهودی، مثل الأعیاد الدینیة الیهودیة و"الاستقلال" و"الهولوکست" والکنس والشخصیات الیهودیة الدینیة والتراثیة وغیرها، وما جرى تطبیقه على الفلسطینیین فی الداخل- عرب 48-، یخطط لتطبیقه على قطاع التعلیم فی القدس، حیث استتبعت دائرة المعارف الإسرائیلیة وبلدیتها رسالتها للمدارس الأهلیة والخاصة حول المنهاج برسالة أخرى فی 17/ 3/ 2011، تطالب فیها تلک المدارس بوضع ما یسمى بوثیقة استقلال دولة إسرائیل فی مکان بارز فی المدارس، ویقوم المعلمون بشرح معانیها للطلبة.

نحن أمام حرب شاملة تشن على المدینة بشکل جنونی ووحشی، حیث فی الذکرى الرابعة والأربعین لضم القدس، یعیث المستوطنون فساداً وعربدة وزعرنة فی القدس المحتلة، ویقومون بمسیرات استفزازیة فی قلب البلدة القدیمة والأحیاء العربیة المقدسیة. ویقوم الاحتلال بتشریع القوانین المغرقة فی العنصریة والتطرف، بهدف طرد وترحیل سکانها العرب ضمن سیاسة التطهیر العرقی، فقانون الولاء والذی على أساسه صدر قرار بإبعاد نواب القدس المنتخبین فی أیار من العام الماضی، حیث أبعد النائب ابو طیر بعد اعتقاله إلى رام الله، وما زال النائبان أحمد عطون ومحمد طوطح ووزیر شؤون القدس السابق خالد أبو عرفة معتصمین فی الصلیب الأحمر فی القدس منذ حوالی عام تقریباً على خلفیة هذا القانون اللاشرعی والمخالف لکل الأعراف والمواثیق والقوانین الاتفاقیات الدولیة، ومن بعدها کان قانون الاستفتاء، أی ربط أی انسحاب من مدینة القدس بعد مصادقة 61 عضو کنیست علیه بطرحه للاستفتاء على الجمهور الاسرائیلی، فقانون اعتبار القدس أولویة وطنیة من حیث الدعم والتطویر، ومن ثم قانون اعتبار القدس عاصمة لیس لـ"إسرائیل"، بل لکل الشعب الیهودی فی العالم. وقد سبق ذلک کله قوانین للحد من الوجود العربی فی المدینة من خلال فرض قیود مشددة على البناء، تصل حد التعجیز، وکذلک سحب الهویات ومنع لمّ الشمل للمقدسیین والمقدسیات المتزوجین/ات من أبناء الضفة الغربیة أو القطاع وغیرها.

هذه الحرب الشاملة على المقدسیین بشراً وحجراً وشجراً، تستدعی بشکل عاجل وملح لیس فقط من أجل القدرة على المواجهة والصمود وتوحید المرجعیات والعناوین المقدسیة فقط، بل لا بد من إبداعات جدیدة وحوامل تنظیمیة جدیدة تستوعب کل الطاقات المقدسیة. ونحن نرى أن السلطة الفلسطینیة لا تتحمل مسؤولیاتها فی هذا الإطار ودورها متواضع فی هذا الجانب، وهناک شعور متولد لدى المقدسیین بأنهم ترکوا وحیدین فی المعرکة للمواجهة والصمود.

وحتى لا نجافی الحقیقة فإننا نقول إن رئاسة الوزراء تبذل جهوداً جیدة من أجل دعم المقدسیین، ولکن هذا الدعم لا یصل الى الحدود الدنیا من احتیاجات أهل القدس، وبالضرورة أن یتم اعتماد قنوات لها صلات مباشرة مع أهالی القدس وقادرة على الوقوف على همومهم واحتیاجاتهم، فأی دعم للمقدسیین فی ظل أکثر من عنوان ومرجعیة، للأسف لن یکون ملحوظاً أو یبنى ویراکم علیه.

المعرکة والحرب الشاملة تحتاج لمواجهة شاملة، یستنفر فیها الشعب الفلسطینی کل طاقاته وإمکانیاته، ومعه کل العرب والمسلمین، فالقدس مصیرها لا یهم الفلسطینیین وحدهم، بل کل العرب والمسلمین فی العالم أجمع، وهم بحاجة لوقفة جدیة ومواقف عملیة تتجاوز الشعارات والبیانات و"الهوبرات" الإعلامیة، وکذلک لدعم مادی حقیقی ولیس على الورق والقنوات الفضائیة، فالقدس تضیع یوماً بعد یوم، والتاریخ لن یرحم کل المفرطین والمتخلین عنها فلسطینیین وعربا ومسلمین.

ن/25