نساء حول بیت المقدس

لا یدعی أحد أن العمل لأجل بیت المقدس حکر على الرجال وحدهم دون النساء، سواء کان ذلک فی التاریخ القدیم أو الحدیث. ولکن حین نأتی إلى الواقع نلاحظ قلةً – إن لم یکن ندرةً – فی أخبار محبة النساء لبیت المقدس والعمل لنصرة هذه الأرض الطاهرة فی الحرب والسلم. والسبب هنا قد یکون تغلیب النظرة الذکوریة على تاریخنا – کما قد یدعی البعض – أو غیاب الوضوح فی دور النساء فی عمران بیت المقدس بنیاناً وإنساناً. وأیاً کانت الأسباب، فإن غیاب الدور النسائی فی کتبنا وإعلامنا لا یعنی بحالٍ غیاباً حقیقیاً للمرأة عن الساحة المقدسیة. بل إن المرأة حاضرة بقوة فی بیت المقدس وساحة نصرة هذه القضیة، ونصوص القرآن الکریم والحدیث النبوی الشریف کما نصوص التاریخ تؤکد هذه المسألة.
فالقرآن الکریم یوثق ما یمکن اعتباره أول عمل نسائی لأجل بیت المقدس، عندما تحدث عن المرأة المجاهدة امرأة عمران، وخصص لهذه المرأة الجلیلة سورة کاملة سمیت باسم (آل عمران) لا باسم عمران نفسه. وهذه السورة توثق فی الحقیقة لحظةً تجلٍّ لامرأة عمران حین نذرت ما فی بطنها فداء لبیت الله المقدس، فالعائلة باتفاق المؤرخین کانت فی القدس، بل إن ما یشهد لکون هذا النذر خاصاً بالأقصى هو اسم الفتاة الصغیرة التی ولدت بعد النذر، (مریم) علیها السلام، وهذا الاسم یعنی باللغة الآرامیة السائدة فی فلسطین فی ذلک الوقت: (خادمة بیت الله). إذن فبیت المقدس فی الصورة من أول الآیات إلى آخرها.
وهذا نموذج آخر من حدیث النبی صلى الله علیه وسلم، حیث یشهد الحدیث النبوی الشریف للنساء بالاهتمام ببیت المقدس والتفکیر فیه کما الرجال. وانظروا إلى السیدة میمونة بنت سعد رضی الله عنها، مولاة النبی صلى الله علیه وسلم، فیما رواه ابن ماجه وأبو داود وأحمد بن حنبل وهی تسأله: (یا نبی الله، أفتنا فی بیت المقدس... الحدیث). وکذلک کانت السیدة أم سلمة أم المؤمنین رضی الله عنها عندما روت حدیث الإهلال بالعمرة من بیت المقدس وقامت بذلک بالفعل.
ولم یکن هذا إلا نبراساً تهتدی به النساء دهوراً من الزمان، فهذه أم الخلیفة العباسی المقتدر بالله تبادر لترمیم قبة الصخرة، وهذه السیدة عصمة الدین خاتون زوج الملک العادل نور الدین زنکی وزوج السلطان الناصر صلاح الدین یوسف من بعده تقدم کل حیاتها لتحریر المسجد الأقصى المبارک. ثم هذه السیدة ترکان خاتون تبنی المدارس فی القدس فی عصر الممالیک، وکذلک السیدة طنشق المظفریة التی قدمت بیتها لیصبح مدرسة للأیتام، وتبقى هذه المدرسة تعمل حتى الیوم فی القدس بعد زهاء ستمائة عام. وکذلک فعلت السیدة روکسیلانة زوج السلطان سلیمان القانونی فی العصر العثمانی، والتی أنشأت التکیة الأشهر فی بیت المقدس (تکیة خاصکی سلطان)، لیقدم فیها الطعام یومیاً للفقراء، واللطیف أن هذه التکیة ما زالت توزع الطعام مجاناً على فقراء بیت المقدس کل یوم منذ خمسمائة عام حتى الیوم.
هذه النماذج لیست مجرد صور معزولة، وإنما هی نتاج حضارة کبرى قدمت لبیت المقدس نساءً ورجالاً على مر التاریخ، وما زال التاریخ یشهد للنساء الیوم بالتقدم فی الصفوف، والعطاء بلا حدود لبیت المقدس، خاصة فی ظل محنة الأرض المقدسة التی ترزح تحت الاحتلال الغاشم منذ أکثر من ستة عقود.
إن دور النساء فی عصر الاحتلال یجب أن یسجل بحروفٍ من ذهب، فکلنا سمع بدلال المغربی التی قدمت روحها فی أکثر العملیات جرأة ضد الاحتلال فی قلب تل الربیع (التی یسمونها الیوم تل أبیب) وعرفت بأنها کانت أول استشهادیة فی تاریخ الثورة الفلسطینیة المعاصر. وکلنا یعرف هبة دراغمة ووفاء إدریس ودارین أبو عیشة وریم الریاشی وغیرهن ممن سرن على نفس الدرب.
غیر أن هذا لیس ما برعت فیه النساء فقط، فخنساء فلسطین أم نضال فرحات أعادت للأمة العربیة والإسلامیة ذکریات الخنساء الأولى وهی تقدم فلذة کبدها فداءً للأرض المقدسة وتودعه وتشجعه على المضی والتقدم فی مقاومة الاحتلال، فاتحةً بذلک الطریق لخنساوات أخریات یطلقن هذا النموذج الذی عجز العالم عن فهمه فی عصرنا الذی اتسم بالمادیة.
لم یکن هذا درب نساء بیت المقدس فقط، فالأقصى المبارک حوله نساء قدمن کل ما یملکن من أجله، والنماذج کثیرة وعظیمة تشهد لها حجارة القدس وزیتونها وهواؤها. وربما لم یرکز الإعلام على دور النساء الرائد فی هبة الدفاع عن الأقصى التی رأیناها أخیراً أو التی سبقت، لکن الوفاء لحقهن یوجب أن نذکر مواقف من بطولات النساء فی الدفاع عن الأقصى المبارک، فأذکر فی بدایة انتفاضة الأقصى عام 2000م أننی رأیت أخاً مصاباً ممدداً على طاولة فی عیادة المسجد الأقصى المبارک، وکان وحیداً لیس له أحد فی القدس على ما کنت أعلم، فهبت امرأة کبیرة سناً وقدراً من بیت المقدس لتمسح جرحه وتصیح حزناً علیه وهی تنادیه ولداً لها دون أن تعرفه أو یعرفها، وما کان ذلک إلا لتضمد جراحه وتخفف عن نفسه ألم الوحشة والوحدة والإصابة. بل سیذکر التاریخ – وإن لم یذکر الإعلام – المواقف البطولیة فی وقفة نساء بیت المقدس فی هبة الأقصى یوم 16/3/2010م بعید افتتاح ما سمی (کنیس الخراب) ومحاولة الصهاینة اقتحام الأقصى ووضع حجر الأساس لبناء المعبد المزعوم، فتوافدت النساء زرافاتٍ ووحداناً إلى الأقصى وانتشرن فی کل زاویة فیه بعد أن منع الصهاینة الرجال من الدخول. واصطفت مئات النسوة أمام باب المغاربة لحمایة المسجد الأقصى من أی اقتحام صهیونی، وما إن أطل علیهم شرطی صهیونی واحد برأسه حتى تناولته النسوة وأذقنه المر ضرباً ورکلاً حتى خلصته منهن وِحدةٌ متکاملة من الشرطة الصهیونیة.
هذه المواقف لیست لنساء القدس فقط، ولیست حکراً على نساء فلسطین قدیماً وحدیثاً، فالعمل لأجل بیت المقدس الیوم مفتوح بل مطلوب من کل سیدة أو فتاةٍ فی أی بقعة فی عالمنا المعاصر، وکم کانت سعادتی غامرةً وأنا أشهد انطلاق روابط للنساء والفتیات لأجل القدس والمسجد الأقصى المبارک هنا وهناک کانت آخرهن رابطة شباب لأجل القدس العالمیة للنساء التی انطلقت فی بیروت فی 26/3/2010م، لتعلن وحدة الهم، ووحدة العمل، ووحدة القضیة الکبرى. ولیس ذلک تمنناً أو تقدمةً وإنما هو واجب تقوم به کل فتاة وکل امرأة تسیر بذلک على خطى امرأة عمران ومریم وأم سلمة ومیمونة والخنساء ومغربی وکل اللاتی قدمن الغالی والرخیص لأجل الأرض التی قدسها الله عز وجل وبارک فیها.
الدکتورعبدالله معروف/أستاذ دراسات بیت المقدس
ن/25