الاربعاء 15 شوال 1445 
qodsna.ir qodsna.ir

نهج ناصری نفتقده

 کان یوم (15/1/2008) هو مناسبة الذکرى التسعین لمیلاد جمال عبد الناصر. إن الکتابة عن ناصر لیست هی ابتعاداً عن الحاضر أو تجاهلاً للمستقبل أو حنیناً لماضی یفتقده عشرات الملایین من العرب، بل هی دعوة للمقارنة بین نهج سائد الآن فی التعامل مع الأزمات وبین نهج "ناصری" واجه أزمات مشابهة لصراعات مستمرّة لأکثر من نصف قرن وما زالت تنخر فی جسد الأمَّة العربیة.

  فلقد عاشت المنطقة العربیة فی بدایة الخمسینات وحتى منتصف السبعینات من القرن العشرین – رغم الکثیر من التعثر والانتکاس- صحوةً قومیة عربیة لم تعرف لها مثیلاً فی تاریخها الحدیث. فقبل الخمسینات، وامتداداً فی القرون العجاف تحت الحکم الترکی ثم سیطرة دول الغرب على العرب، لم یکن للعرب حول ولا قوّة تذکر.

منتصف القرن العشرین جاء حاملاً معه متغیّراتٍ کثیرة فی المنطقة العربیة وفی العالم ککلّ. فالخمسینات التی کانت موقعاً زمنیاًَ وسطیاً للقرن العشرین، کانت أیضاً من خلال قیام "ثورة 23 یولیو" عام 1952 بقیادة جمال عبد الناصر، بدء انطلاق حرکةٍ قومیة عربیة وسطیة "لا شرقیة ولا غربیة"، ترفض الانحیاز إلى أحد قطبیْ الصراع فی العالم آنذاک، وترفض الواقع الإقلیمی المجزّئ للعرب کما ترفض الطروحات القومیة الأوروبیة العنصریة والفاشیة أو أسلوب الضمّ العسکری، وتنطلق من أرض مصر التی هی موقع جغرافیّ وسط یربط أفریقیا العربیة بآسیا العربیة، وتعیش على ترابها أکبر کثافة سکّانیة عربیة تملک کفاءاتٍ وقدراتٍ بشریة ضخمة قیاساً بسائر الأقطار العربیة الأخرى.

حرب السویس عام 1956 ثمّ إعلان الوحدة بین مصر وسوریا عام 1958، وقبل ذلک إعلان تأسیس حرکة عدم الانحیاز ورفض سیاسة الأحلاف الاستعماریة، کلّها کانت مصادر إشعال لتیارٍ جدید قاده جمال عبد الناصر من خلال موقع مصر وثقلها القیادی، وحقّق للمرّة الأولى صحوةً قومیةً عربیة تؤکّد ضرورة التحرّر الوطنی والاستقلال القومی والانتماء إلى أمَّةٍ عربیةٍ واحدة، وتدعو إلى وحدة وطنیة شعبیة فی کلّ بلد عربی، وإلى استخدام الوسائل السلمیة فی الدعوة للوحدة العربیة، وإلى نهضةٍ عربیةٍ شاملة فی الأطر کلّها السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة.

لکن هذه الصحوة القومیة العربیة کانت فی غالبیتها "حالةً شعبیة" أکثر منها "حالة فکریة" أو "تنظیمیة". فالشارع العربی کان مع جمال عبد الناصر "القائد"، لکن دون "وسائل سلیمة" تؤمّن الاتصال مع هذه القیادة. فأجهزة المخابرات کانت هی فی معظم الأحیان "وسائل الاتصال" بدلاً من البناء التنظیمی المؤسساتی السلیم للمجتمعات ولهذه الملایین العربیة فی بلدان المشرق والمغرب معاً ..

طبعاً هذه الأمور کلّها لم تکن بمثابّة قضایا هامّة لدى الشارع العربی، فسمة المرحلة کانت "معارک التحرّر الوطنی من الاحتلال والاستعمار"، وهذه المعارک لم تسمح کثیراً ب"الحدیث عن الدیمقراطیة" خاصّةً أنَّ العالم آنذاک کان قائماً على تجربتین: التجربة الرأسمالیة فی الغرب، وهی التی تقوم على تعدّد الأحزاب والحریات العامَّة مع النظام الاقتصادی الحر، بینما التجربة "النموذجیة" الثانیة التی کانت سائدة هی التجربة الشیوعیة (السوفییتیة أو الصینیة) والتی کانت ترفض أساساً وجود حزبٍ آخر غیر الحزب الحاکم ولا تقبل بأیّ نوعٍ من الحریات العامة فی المجتمع، وتقوم على الاقتصاد الاشتراکی الموجَّه والمُسیطَر علیه من قبل الدولة.

لذلک کان من الطبیعی فی منطقةٍ عربیة ترید التحرّر من الغرب الرأسمالی (کحال معظم دول العالم الثالث) أن تطلب المساندة من "الشرق الشیوعی" وأن تتأثّر بمفاهیمه للحکم سیاسیاً واقتصادیاً وثقافیاً، وألا تقبل الجمع بین التحرّر الوطنی من الغرب وبین تبنّی صیغه الدستوریة والاقتصادیة والثقافیة فی أنظمتها.

وفاة جمال عبد الناصر عام 1970، وقبلها هزیمة عام 1967، وقبل هذا وذاک: ضعف البناء الفکری والسیاسی والتنظیمی لتیّار القومیة العربیة مقابل قوّة دور "المخابرات" وسط هذا التیَّار.. کلّها عناصر أسهمت بلا شکّ فی ضعف التیَّار القومی العربی نفسه لعقودٍ لاحقة.

وصحیح أن هذ المرحلة قد انتهت الآن، لکن دروسها للحاضر والمستقبل أنَّ القومیة العربیة هی حالة انتماء ولیست مضموناً فکریاً وسیاسیاً قائماً بذاته، وبأنَّ النهضة العربیة الشاملة تحتاج إلى دور مصری فاعل وإلى تکامل بین وضوح الهویّة العربیة وبین البناء الدیمقراطی السلیم.

لکن السلسلة التی امتدَّت من هزیمة 1967، إلى وفاة ناصر، إلى توقیع أنور السادات لمعاهدات کامب دیفید، إلى عزل مصر، إلى حرب لبنان، إلى الحرب العراقیة/الإیرانیة، إلى اجتیاح لبنان عام 1982، إلى غزو الکویت وحرب الخلیج ( الفارسی ) الثانیة، إلى الصراعات الحدودیة المسلَّحة بین بعض الدول العربیة، ثم إلى أحداث سبتمبر 2001 وما بعدها من حروب وصراعات أخطرها إحتلال العراق.. کلّها عوامل امتزجت کسلبیّات لتضعف الجسم العربی عموماً ولتضع الصراع العربی/الإسرائیلی فی حالة "الثانویة" أو خانة التسویات الثنائیة!.

رحم الله تعالى جمال عبد الناصر، فقد دفعته معلومات مصدرها موسکو (أیار/مایو 1967) عن حشوداتٍ إسرائیلیة ضدَّ سوریا إلى إعلان حالة التعبئة العامَّة وإغلاق مضائق تیران فی سیناء، ثم تعرّضت مصر لهزیمةٍ عسکریةٍ کبیرة کان وراءها استهتار المشیر عامر والترکیبة الهشَّة آنذاک للمؤسسة العسکریة المصریة. رغم ذلک، أعلن جمال عبد الناصر یوم 9 حزیران/یونیو (بعد أقلّ من أربعة أیام على بدء الحرب) استقالته من المواقع الرسمیة کافّة وأنّه کقائدٍ أعلى یتحمَّل المسؤولیة کلّها عمَّا حدث. وما حدث فی مصر لم یکن عدواناً من حکومتها على بلدٍ عربیٍّ آخر ولا حتى على إسرائیل، بل کان عدواناً علیها من إسرائیل وأمیرکا و"غضّ نظر" من القطب الدولیّ الآخر… ومن أجل محاولة الدفاع عن بلدٍ عربیٍّ آخر، سوریا.

جمال عبد الناصر حرص کردٍّ على هزیمة عام 1967 على أن یوقف أیّة صراعات عربیة/عربیة وعلى أن یبنی تضامناً عربیاً فعالاً، فسحب القوات المصریة من الیمن، وصالح کلَّ من عاداه من العرب، ورفع شعار أولویّة المعرکة مع العدوِّ الصهیونیّ.

فالقیادة الناصریة لمصر أدرکت بعد هزیمة عام 1967 أهمیّة إعطاء الأولویّة الکاملة للصراع مع إسرائیل، وأنّ هذا الصراع یقتضی تکاملاً بین هذه العناصر الثلاثة:

1- بناء تضامن عربی فعّال یضع الخطوط الحمراء من جهة (کمجموعة لاءات قمة الخرطوم) حتى لا ینزلق أیّ طرفٍ عربی فی اتفاقیات منفردة، وبوقف کلّ الصراعات العربیة/العربیة والمعارک الهامشیة داخل المجتمع العربی. وبذلک حسم ناصر: "لا صوت یعلو على صوت المعرکة مع العدوّ الصهیونی"، وبأنّ معیار المرحلة هو "موقف أیّ طرف عربی من العدوّ ".

إنّ التضامن العربی إنّما یکون فاعلاً حینما لا یکتفی بتردید ما هو "مرفوض" بل حینما یضع خططاً لما هو مطلوب إنجازه فی المعرکة ..

لقد کانت قرارات قمّة الخرطوم عقب هزیمة 67، هی الأرضیّة الصلبة للدعم العربی الذی تقرّر لدول المواجهة ولمنظمة التحریر الفلسطینیة، وقامت حصیلة ذلک جبهة عربیة واسعة جمعت "دول النفط" مع "دول المدفع" فی إطارٍ تضامنیٍّ عام، ساعد على إعادة بناء القوات المسلحة المصریة وخوضها لمعارک حرب الاستنزاف على الجبهة المصریة، ثمّ کان هذا التضامن ذاته وراء القرار فی حرب تشرین الأول/أکتوبر عام 1973، الذی جمع بین استخدام السلاح والاقتصاد والسیاسة، فکان قرار حظر النفط متساویاً فی أهمّیته مع قرار المواجهة العسکریة مع إسرائیل.

2- بناء جبهة داخلیة متینة لا تستنزفها صراعات طائفیة أو عرقیة، ولا تلهیها معارک هامشیة عن المعرکة الرئیسیة مع العدوّ الصهیونی. طبعاً، مع إعادة بناءٍ کاملٍ للقوات المسلحة واعتماد عنصر "الکفاءة" لا "الولاء" فی مواقع المسؤولیة داخل الدولة عموماً، والجیش خصوصاً. وکان نموذج هؤلاء الشهید الفریق عبد المنعم ریاض (رئیس أرکان القوات المصریة) أحد شهداء حرب الاستنزاف على الجبهة المصریة عام 1969.

3- بناء أهداف سیاسیة مرحلیة لا تقبل التنازلات أو التفریط. فقد رفض جمال عبد الناصر إغراءات التسویة کلّها مع إسرائیل، بما فی ذلک العرض الأمیرکی/الإسرائیلی له بالانسحاب الکامل من کلّ سیناء مقابل عدم تدخّل مصر فی الجبهات العربیة الأخرى، وإنهاء الصراع بینها وبین إسرائیل (وهذا ما فعله أنور السادات فیما بعد باتفاقیة کامب دیفید).  وکان ناصر یردّد "القدس قبل سیناء، والجولان قبل سیناء"، و"لا صلح ولا اعتراف بإسرائیل ما لم تتحرّر کلّ الأراضی العربیة المحتلّة عام 1967، وما لم یحصل الشعب الفلسطینی على حقوقه المشروعة".

وأصرَّ ناصر على هذه الأهداف السیاسیة رغم قبوله بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن ثمَّ لما کان یُعرَف باسم "مبادرة روجرز"، وکان یتحرّک دولیاً فی مختلف الاتجاهات (رغم ظروف الحرب الباردة واضطراره لعلاقةٍ خاصّة مع موسکو) بدون تفریطٍ أو تنازلٍ عن الأهداف السیاسیة المرحلیة، وبشکلٍ متزامنٍ مع البناء العسکری والمعارک المفتوحة على الجبهة المصریة ومع أقصى درجات التضامن العربی والدعم المفتوح لحرکة المقاومة الفلسطینیة.

هکذا جعل عبد الناصر من هزیمة عام 1967 أرضاً صلبة لبناء وضعٍ عربیّ أفضل عموماً، مهّد الطریق أمام حرب عام 1973، فکانت السنوات الأخیرة من حیاة ناصر زاخرة بالبناء الدخلی وبالتضامن العربی وبالمواقف الصلبة والتی أعادت للأمَّة المهزومة اعتبارها وکرامتها.

لکن بعد وفاة جمال عبد الناصر وبعد "انتصار أکتوبر 73" اتّسمت المرحلة بتحوّلات خطیرة لدى بعض الحکومات العربیة ولدى السلطة الفلسطینیة التی اعتمدت (المفاوضات کأسلوبٍ وحید) وهذا ما حقّق التطبیع مع إسرائیل حتى قبل الانسحابات الشاملة من کلِّ الأراضی العربیة المحتلّة، وما ساعد على التراجع عن الهویّة العربیة لصالح دعاة "الشرق أوسطیة"، وإلى تصعید الصراعاتٍ العربیة/العربیة، وإلى جعل "المرجعیة الأمیرکیة" هی المهیمنة على المنطقة کطرفٍ دولیٍّ وحید یشرف على الصراعات والمفاوضات ویصبح فیها الخصم والحکم!.

( المقال للدکتور صبحی غندور مدیر مرکز الحوار العربی فی واشنطن  استلمته وکالة قدسنا )

ن/25


| رمز الموضوع: 140883







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. قيادي في "حماس" : لدى الحركة نحو 30 أسيرا من الجنرالات وضباط الشاباك
  2. تصاعد الهجرة العكسية في الكيان الصهيوني بعد عملية طوفان الأقصى
  3. الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين تجتاح الكليات الأميركية وسط إضرابات جماعية وعشرات الاعتقالات
  4. أبو عبيدة: رد إيران بحجمه وطبيعته وضع قواعد جديدة وأربك حسابات العدو الصهيوني
  5. خلال زيارته لجامعة كراتشي.. رئيس الجمهورية: الكيان الصهيوني مني بالفشل الذريع في غزة رغم جرائمه غير المسبوقة
  6. صواريخ المقاومة الفلسطينية تدك بشدة مستوطنات غلاف غزّة
  7. الصحة بغزة : 34183 شهيدا و77143 إصابة منذ بدء العدوان
  8. الشيخ نعيم قاسم: اسرائيل لا يوقفها الا السلاح و المقاومة
  9. أمير عبد اللهيان: يجب على الاتحاد الأوروبي ان يفرض عقوبات على الكيان الاسرائيلي
  10. حماس تندد بتصريحات وزير الخارجية الامريكي وتصفها بانها تتناقض مع الحقيقة
  11. أنصار الله تدعو القوات المسلحة اليمنية الى تصعيد عملياتها ضد الملاحة الصهيونية
  12. الرئيس الإيراني: الصهاينة يستغلون الخلافات بين الدول الإسلامية
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)