محطات على طریق تهوید فلسطین

فی عام 1917 صدر عن الحکومة البریطانیة وعد بلفور لإنشاء وطن قومی للیهود فی فلسطین. فی حینه کانت نسبة الیهود فی فلسطین لا تتجاوز 10% من مجمل السکان. ووجه القرار بمقاومة فلسطینیة وعربیة وإسلامیة ومعارضة وممانعة دولیة حاشدة.

لکن تلک المقاومة والمعارضة والممانعة کانت عملیاً ذات فاعلیة متواضعة بسبب سیطرة القوى العظمى على صناعة وتنفیذ القرارات. على أرض الواقع بدأت عملیة دیموغرافیة ترعاها الدول الإمبریالیة عُرفت بعملیة «إحلال شعب بلا أرض فی أرض بلا شعب».

فی عام 1947 صدر قرار دولی بتقسیم فلسطین. نص القرار على إعطاء الأقلیة الیهودیة المتصاعدة فی العدد بسبب الهجرة «المبرمجة» النسبة الأکبر من أرض فلسطین. أدى قرار التقسیم المجحف بحق عرب فلسطین إلى قیام حرب شاملة غیر متکافئة فی میزان القوة بین العرب والیهود. سرعان ما أدت الحرب فی العام 1948 إلى إعلان إقامة الکیان الیهودی الإسرائیلی رسمیاً على حوالی 80% من أراضی فلسطین.

عقب عدوان یونیو 1967 احتلت "إسرائیل" ما تبقّى من فلسطین العربیة بمساعدة إمبریالیة دولیة فاعلة سیاسیاً وعسکریاً واقتصادیاً. صدر عن مجلس الأمن القرار الدولی رقم 242 المثیر للجدل. فی واقعه وجوهره وفلسفته المبطنة هدف القرار 242 إلى تکریس وتعزیز الاحتلال الإسرائیلی للمناطق المحتلة الجدیدة متمشیاً مع رغبة وحاجة بل تعطش "إسرائیل" للتوسع الجغرافی.

إبان وبعد حرب أکتوبر 1973 تدخلت الولایات المتحدة الأمیرکیة بقوة لصالح "إسرائیل". تُوجت المحاولات والجهود الأمیرکیة لفرض واقع جدید بعقد اتفاقیة کامب دیفید عام 1979. أمّنت اتفاقیة کامب دیفید "إسرائیل" من الردع والتهدید الرئیسی العربی من جهة الجبهة المصریة.

کسبت حملة إنشاء المستعمرات الإسرائیلیة فی المناطق المحتلة زخماً إضافیاً. بالتوازی مع النشاط الاستیطانی الإسرائیلی المحموم عملت "إسرائیل" على الحد من النمو والازدهار الفلسطینی المحلی.

غزت "إسرائیل" الأراضی اللبنانیة بموافقة ودعم ومؤازرة أمیرکیة عام 1982 ودمرت البنیة العسکریة الفلسطینیة فی لبنان. برعایة أمیرکیة عُقدت صفقة أو شبه اتفاقیة «لبنانیة ـ فلسطینیة ـ إسرائیلیة» لإنهاء الوجود الفلسطینی المسلح فی لبنان نهائیاً.

بذلک تم تأمین "إسرائیل" ضد تهدید عسکری فعال کان یأتیها من الجبهة اللبنانیة. تصاعدت ظاهرة الهجرة إلى "إسرائیل" وخُصصت میزانیات إسرائیلیة أمیرکیة ضخمة لاستیعاب المهاجرین الیهود الجدد. أتى مؤتمر مدرید عام 1991 برعایة أمیرکیة فعلیة، وشکلیة سوفییتیة، لینهی عملیاً المقاومة ضد "إسرائیل".

وضع ذلک الرافضین للعملیة السیاسیة فی مواجهة مباشرة مع السیاسة الأمیرکیة. بسرعة وُضع القادة العرب فی حلم تحویل بلادهم إلى هونغ کونغ وتایوان وسنغافورة ومالیزیا ویابان أخرى. تُوجت المفاوضات والجهود والتنازلات الفلسطینیة والعربیة باتفاق أوسلو «الشائک» عام 1994.

هدف اتفاق أوسلو إلى وضع المنطقة العربیة بطریقة لطیفة وهادئة فی منزلق تقدیم تنازلات تبدأ ولا تنتهی. من موقع ضعیف ویائس ومأزوم وخال من البدائل الفعالة بدأ المفاوضون العرب بسلة کبیرة من التنازلات فی سبیل إقناع "إسرائیل" والإدارات الأمیرکیة بصدق نوایاهم.

تنازلات شملت الاعتراف المجانی بدولة "إسرائیل" وأخرى فی مجال الحدود النهائیة والقدس وعودة اللاجئین والمیاه والسیادة .. إلخ. من التنازلات ما تم إرفاقه بفاتورة مالیة کبیرة مدفوعة من حکومات عربیة ثریة زیادة فی إثبات صدق النوایا. الجامعة العربیة من جهتها أیدت تقدیم تلک التنازلات وعززت رأیها بالقول غن السلام العربی مع "إسرائیل" أصبح «خیاراً استراتیجیاً» لا زحزحة عنه.

قام أرییل شارون فی سبتمبر عام 2000 بإطلاق رصاصة الرحمة على العملیة السیاسیة المبنیة على اتفاق أوسلو عندما قام بزیارة استفزازیة مهینة للحرم القدسی. على إثر الزیارة انطلقت انتفاضة الأقصى وبات الحدیث عن الاستمرار فی السلام أمراً غیر ذی معنى. من بین نیران الصخب الإعلامی المحلی والدولی استمر زعماء "إسرائیل"، المتشددون والمعتدلون، فی قیادة عملیة تهوید الجغرافیا والتاریخ والمقدسات فی فلسطین.

أذکت حوادث الحادی عشر من سبتمبر 2001 فی نیویورک نظرة العداء الغربی تجاه کل ما هو عربی وإسلامی. باتت القضیة الفلسطینیة أقوى المرشحین لتنال سوءاً من الهجمة الغربیة الجارفة على العرب والإسلام والمسلمین. إبان الهجوم الأمیرکی على ما یوصف بالإرهاب حدثت عدة مؤتمرات جانبیة أو مصغّرة فی مواقع مختلفة فی المنطقة والعالم فی محاولة یائسة لوضع العملیة السلمیة فی مسار ما.

لم تُوفق تلک المحاولات فی فعل خیر یذکر وکانت محاولة کسب الوقت والمناورة هی الطابع المسیطر. بعد حصار دام سنوات أقدمت "إسرائیل" على اغتیال الرئیس الفلسطینی یاسر عرفات عام 2004 فی إحدى محاولاتها الجادة لتدمیر العملیة السیاسیة السلمیة برمتها. 

بنظرة عمیقة أو حتى سطحیة فإن اتفاقیة مع "إسرائیل" تکاد لا تعنی شیئاً على الإطلاق، لا بل فی مجملها لا تعدو مضیعة للوقت وضحکاً على اللحى والذقون. أثناء توقیعها لاتفاقیة أمنیة أو سیاسیة أو سلام مع الطرف الفلسطینی لا تتردد "إسرائیل" فی وضع العصی فی دوالیب عمل تلک الاتفاقیة قبل وخلال وبعد توقیعها.

خیارات وتوقیت تعطیل بل نسف الاتفاقیات أمام "إسرائیل" کثیرة وسهلة بسبب سیطرتها على مجریات الأمور عسکریاً ومالیاً وسیاسیاً بسبب الدعم والتعاطف الأمیرکیین السافرین. مثلاً تکشف "إسرائیل" عن خطة جهنمیة لإعادة بناء هیکل سلیمان المزعوم على أنقاض المعالم الإسلامیة بعد تدمیرها بآلات الجرف والحفر. عشیة توقیعها لاتفاقیة مع الطرف الآخر یذهب جهاز "إسرائیل" الأمنی إلى تنفیذ عملیات اغتیال بالجملة لقیادات فلسطینیة سیاسیة أو عسکریة أو اجتماعیة أو دینیة مهمة.

بعد 90 سنة على وعد بلفور السیاسی الدیموغرافی انعقد مؤتمر أنابولیس 2007 فی الولایات المتحدة الأمیرکیة فی ظروف إقلیمیة ودولیة غایة فی البؤس والغرابة والغموض. حدث ذلک فی ذروة المواجهة بین حرکات الممانعة العربیة والإسلامیة والدولیة لإفشال المشروع الأمیرکی الهادف للسیطرة على جل مجریات السیاسة الدولیة.

قبیل وأثناء وبعد مؤتمر أنابولیس ظهر إلى العلن عامل قدیم جدید یتمثل فی إضافة شرط قبول الفلسطینیین والعرب "إسرائیل" کدولة یهودیة أو دولة للیهود فقط. مطلب عنصری توراتی إذا ما تم تطبیقه حسب الفهم الصهیونی الإسرائیلی فإن حق العودة للاجئین الفلسطینیین یصبح غیر ذی صلة بقضیة الشرق الأوسط. یهدد ذلک المطلب الحقوق الوطنیة لحوالی ملیون ونصف الملیون فلسطینی ممن یُعرفون بعرب 1948.

ذلک ما یجعل المناطق المخصصة لبناء الدولة الفلسطینیة خلف وبین الجدران الأمنیة العازلة تکتظ بعشرات بل مئات آلاف اللاجئین «العائدین» من مواطن الشتات والمشردین «المرحّلین» من ما وراء ما یُعرف بالخط الأخضر. هل هذا یعد تطبیقاً لرؤیة الرئیس الأمیرکی جورج بوش الحقیقیة لمشروع الدولتین؟!.

فی الاتفاقیات المعلنة بین العرب و"إسرائیل" عادة ما تتلخص المساعدات الغربیة للعرب بالطعام والأغطیة والملابس وبعض المال وقبلات «العلاقات العامة»!، یصاحب ذلک تسهیل بعض الإجراءات والأعمال المیدانیة.

مقابل ذلک تحصل "إسرائیل" على الأرض والأمن والسلام بالإضافة إلى السلاح والدعم السیاسی الوافرین. اللافت للنظر أنه فی اتفاق أنابولیس بلغت الأموال الموعودة لمساعدة الفلسطینیین مبلغاً (7.4 ملیارات دولار) یفوق ما طلبه رئیس الوزراء الفلسطینی الدکتور سلام فیاض (5.6 ملیارات دولار)، ذو العقلیة المتشددة تکنوقراطیاً، وبکثیر.

کما یبدو تهدف الإدارة الأمیرکیة والحکومات الموالیة لها إلى منح السلطة الفلسطینیة العرجاء، أو حتى المشلولة، وعداً بعصا سحریة مالیة قویة تتوکأ علیها مالیاً وسیاسیاً ذهنیاً وتهش بها بقوة على الأطراف المعارضة للعملیة السیاسیة.

الدعم المالی «السخی الدولی» من مؤتمر أنابولیس یأتی إلى منطقة ذات بنیة تحتیة أو أساسیة مدمَّرة ومنهکة اقتصادیاً وإداریاً ومعنویاً بأفعال وممارسات الاحتلال. هذا الدعم مشروط بالقضاء على المقاومة الفلسطینیة ضد مشاریع وأعمال الکیان الإسرائیلی العدوانیة بأیدٍ فلسطینیة.

خلال ذلک تتفرغ "إسرائیل" خلال ذلک فی الاستمرار فی مشروع تهوید کامل فلسطین التی بدأت منذ ما یربو على القرن من الزمان. لو کان مؤتمر أنابولیس صادقاً وأمیناً على تطبیق السلام واستحقاقاته لکان بدأ بالتطرق إلى إزالة مئات الحواجز الأمنیة، أو ما یمکن أن یطلق علیها «محاکم تفتیش» توراتیة یهودیة فی فلسطین تعمل فی سباق محموم مع الزمن لاستئصال أکبر عدد من الفلسطینیین من أوطانهم.

( بقلم الدکتوره نسرین مراد الاستاذة بجامعة الامارات )

ن/25