وقفة بین عامین

کتب کلوفیس مقصود  من مرکز الحوار العربی فی واشنطن فی مقال استلمته وکالة قدسنا :

کانت الایام الفاصلة بین عامین تعتبر مناسبة لتبادل التهانی ورسم توقعات مستقبلیة واعدة... واذا تحقق بعضها انتفى التشاؤم حتى لو لم یتحقق بعضها الآخر. وهکذا کان هامش التفاؤل قائماً وان کان المطلوب المتبقی مؤجلا. صحیح ان منسوب التفاؤل کان متفاوتا لکنه استمر قائماً.

اما بالنسبة الى حال الامة العربیة والاوطان المکونة لها فالوقفة تتمیز بصعوبة التفاؤل وان لمدة. واذا کان من تمنٍّ فارجو ان یکذب العام القادم هذا التوقع ویحسم بنفیه. صحیح ان توصیفاً کهذا یجب ان یکون عاملاً تحریضیاً على الافضل الا ان صعوبة التفاؤل واحیاناً اقترابه من الاستحالة تحول التسلیم بهذه الحالة استسلاما لمنطق "واقعیة" مهدت بقدریة سائدة.

ولعل لهذا الوضع اسباباً واضحة تکمن فی ما آلت الیه التطورات بعد احداث 11 ایلول 2001، الى استقطابات حادة اختزلها الرئیس جورج بوش بـ"... إما معنا وإما ضدنا". وتصرفت ادارته على اساس اقفال باب المساءلة ثم تعلیق العدید من الحریات المدنیة والدستوریة لمواطنی الولایات ا لمتحدة والمقیمین فیها، بدلیل ما انکشف من ممارسات شاذة  وتعذیب قامت به وکالة المخابرات المرکزیة فی سجون سریة فی دول عدة من العالم اضافة الى خروق مثبتة لاتفاقات جنیف. الا ان هذا الاستقطاب مهد لفرز امیرکی حدید بحیث اعطت ادارة بوش تحدید من هو "المعتدل" ومن هو "المتطرف" بموجب تفردها بهذا التوصیف. فبالنسبة الى الدول العربیة وقضایاها المصیریة بات "المعتدل" من طبّع مع اسرائیل او سعى الى التطبیع و"المتطرف" من یرفض او حتى من یتردد فی التطبیع او السعی الیه. بمعنى آخر صار العربی "المعتدل" هو من یسهل لمقتضیات متطلبات العلاقة الاستراتیجیة الامیرکیة – الاسرائیلیة.

طبعاً هذا الفرز تفاقمت دوافعه أثر غزو العراق وتداعیاته على المنطقة. فکان وجود القوات الامیرکیة فی العراق ذریعة لاسکات المعارضة المتنامیة، مما اعاد انتخاب الرئیس بوش على رغم اکتشاف کذب الدوافع التی جذبت بدورها شبکة الارهاب الى ممارساتها الاجرامیة فی الساحة العربیة. فکما أدت سیاسة مکافحة الارهاب الى تعلیق، وبالتالی تشویه، مرتکزات الدیموقراطیة والقیم المناقبیة التی جعلت الولایات المتحدة عاملاً جاذباً. کذلک عملت "القاعدة" ومتفرعاتها على تشویه، وتزویر، مفاهیم المقاومات المشروعة والقیم الحضاریة والاخلاقیة والسلوکیة للدور التنویری والروحی للاسلام. کما ان "مکافحة الارهاب" تبنت بعض المفاهیم والتفسیرات الاسرائیلیة بمعنى الارهاب فکان هذا الدمج الذی یفسر الکثیر من المآسی التی یعانیها شعبنا فی فلسطین کما یفسر "واقعیة" السلطة التی اندفعت فی انزلاقها فی اطار "مفاوضات" لا یمکن مطلقاً أن تؤدی الى تحریر وبالتالی الى دولة مستقلة بموجب قرارات القمة العربیة فی بیروت والریاض.

فی هذا الصدد لعلها تکفینا مشاهدة مشاهد الحجاج العائدین، أو الذین یحاولون العودة الى غزة من خلال المعبر الذی خرجوا منه هذه المشاهد لیست بحجم الجرائم التی ترتکبها اسرائیل فی قطاع غزة لکن ما هو أصعب فی الوقفة بین عامین هو تلعثم السلطات المصریة فی تسهیل عودة الحجاج الى بلدهم. ومع ذلک علینا أن نفهم ان الارتباک المصری (الرسمی) فی هذا الشأن إنما هو افراز فاضح لسیاسات الإملاء والهیمنة والاذلال التی تقوم بها اسرائیل تعبیراً عن ان ما تقوم به منبثق من "ضرورات مکافحة ارهاب" حرکة "حماس". وهذه الغطرسة الاسرائیلیة تنطبق على "مفاوضاتها" مع السلطة ایضاً. فقبل کل اجتماع تفاوضی تقیم مستوطنات جدیدة متذرعة بأن على السلطة أن تقوم بدورها فی "المساهمة فی المهمات الامنیة" أی فی "مکافحة الارهاب" أی ان تتخلى فی شکل کامل عن ثقافة المقاومة وضرورات الوحدة الوطنیة لشعب فلسطین. لذا نرى ان اجتماع أنابولیس کان بدوره احتفالاً تحذیریاً تسابق فیه العدید من الانظمة العربیة لتلبیة استدعاء من دون استیعاب الغایة منه. واستطراداً اعتبرت سوریا دعوتها تمهیداً لاستقامة علاقتها مع واشنطن، کما ان "الاکثریة" فی لبنان اعتبرت دعوة سوریا تمکیناً لخروج الولایات المتحدة مما قدمت من "ضمانات" لهذه "الاکثریة". لذا لجأ الرئیس بوش باندفاع شرس الى الدعوة لانتخاب رئیس لبنان بالنصف "زائد واحد" غیر آبه لما قد ینتج من هذا التحریض والتدخل السافر فی وضع شدید الحساسیة.

جاء اغتیال زعیمة "حزب الشعب" بوتو لیبین حقائق عدیدة فی طلیعتها ان سلاح الارهاب هو المباغتة بمعنى ان ای مسیرة او خطة مدروسة للانفتاح او التنمیة والتعامل العادی الیومی یجب ان تتعطل کلها او تتوقف. والمباغتة یمارسها الارهابیون بعملهم على الغاء ثقافة الحیاة من خلال توفیر الحریات وتفعیل التنمیة المستدامة لمجتمعات مستقلة ومستقرة، واستبدالها بثقافة الغاء الحیاة وبتر وسائل التنمیة ومقدمات استدامتها من خلال تعطیل المؤسسات وضرب الثقافة وتجهیل الاجیال وتغییب المعلومات وحصر طموح الراغبین فی مقاومة الظلم بظلامیة وعود باطلة. کل هذه الممارسات التی تقوم بها شبکات الارهاب تساهم مع من یرعون "مکافحة الارهاب" فی اشتباک عنیف تلغی امکان الحوار والمناقشة والتفاوض ویجعل التخویف منهجا للتعامل بین البشر ویزیح العقل عن مجالات الحکم والتعامل والتطویر وعند ذلک یصبح الخوف مرادفا للحیاة ویحصر مفهوم الحیاة بـ"البقاء".

کما ان اغتیال بوتو الاخیر یشیر الى ان خطیئة غزو العراق حرفت شرعیة ما قامت به الولایات المتحدة فی افغانستان. وکان ترکیزها على حربها فی العراق فرصة لتجدید انطلاقة من خططوا واحتضنوا من قاموا بعملیة 11 ایلول. وکان من نتائج هذا الانحراف الازمة المتزایدة فی تداعیاتها فی الباکستان وما قد ینتج من الاغتیال من ضرورة اعادة نظر جذریة فی مختلف اوجه السیاسة الدولیة للولایات المتحدة. ولعل علینا جمیعا ان ننتظر نتائج الانتخابات الرئاسیة التی من شأنها تعدیل ان لم یکن تغییر المواقف التی جلبت العدید من المآسی والاخطار فی عالمنا العربی... ولا تزال.

واذا کان منطقیا استبعاد التفاؤل لبنانیا فلأن حدة الاستقطاب والاجراءات الاستفزازیة المتبادلة تبرز میلنا الى عدم اعطاء آمال مغلوطة لشعب لبنان المنهک من الوعود الکاذبة... وعیوب التستر بالدستور، فی حین ان الحاجة الى رئیس موجه وقادر یوفر بوصلة مفقودة. ولا یجوز ان یبقى الموضوع الرئاسی معلقا، واذا کان الارهاب یعتمد على المباغتة فعلى الطاقم السیاسی ان یفاجىء لبنان بانتخابه بدون تعقیدات العماد میشال سلیمان القادر على تفکیک عناصر هذه المباغتة...  وکل عام والجمیع بخیر.

( الدکتور کلوفیس مقصود هو سفیر سابق للجامعة العربیة وحالیاً استاذ فی الجامعة الامیرکیة فی واشنطن )

ن/25