الخميس 18 رمضان 1445 
qodsna.ir qodsna.ir

مراسم دفن أنابولیس .. وإحیاء ایران

ربما تکون الرحلة التی یزمع الرئیس بوش القیام بها إلی الشرق الأوسط هی التتویج الرسمی لمراسم دفن مؤتمر أنابولیس، فقد انتهی أنابولیس إلی الفشل مبکرا، وبأکثر مما توقع الرافضون لعقده، وظروفه، ومداولاته، وبرنامج مفاوضاته، التی لم تکد تبدأ حتی انتهت فی المهد لمصائر ألف فشل مماثل: تفاوض لمجرد التفاوض، إیهام بالحرکة حیث لا حرکة، ولجنة توجیه ثم لجان فرعیة، ولقاءات أشبه بدوائر ارتباط وظیفی کل مهامها أن تتلقی الرغبات الإسرائیلیة، وإن شهدت بعض المشاکسات من الجانب الفلسطینی لزوم الأداء المسرحی.

لکن المطالب الرئیسیة تظل بعیدة عن القدس واللاجئین والحدود والمستوطنات وغیرها من عناوین الحل النهائی، وساکنة دائما فی المرحلة الأولی من خریطة طریق ممتد فی المتاهة علی طریقة محلک سر ، وربما تکون المفاوضات الفلسطینیة ـ الإسرائیلیة هی الأعجب من نوعها فی التاریخ، تفتح دائما بلا ختام یتوج، وتضیع فی التفاصیل والخرائط والعناوین والمدن من أوسلو إلی طابا إلی وای بلانتیشن إلی خطة زینی إلی کامب دیفید إلی خریطة طریق بوش المسدود فی أربع جهات الأرض.

فلم یکد المحتفلون فی لقاء أنابولیس یغادرون، حتی کانت الضربة القاضیة فی مجلس الأمن، مندوب أمریکا الدائم خلیل زاده تصور أن القصة فیها متسع قبل الفشل، وقدم مشروع قرار یجعل من أمر التفاوض الفلسطینی ـ الإسرائیلی شأنا دولیا، ورغم الصیغة المحابیة تماما لإسرائیل، فقد رفضت تل أبیب بحزم، وانتهی البیت الأبیض إلی الامتثال الفوری، وإلی سباق فی التنصل من شبهة نیة فی تحایل علی رغبة إسرائیل، وإلی غمغمات من نوع أن نتائج مؤتمر أنابولیس تتحدث عن نفسها .

وهی کذلک بالفعل، والمعنی ظاهر: فالعلاقة بین أمریکا وإسرائیل هی علاقة اندماج استراتیجی، أکبر من تحالف وأقرب إلی امتزاج، وفی مراحل بدا کما لو أن واشنطن هی عاصمة الاندماج، بوش الأب ـ مثلا ـ رغب فی عقد مؤتمر مدرید أوائل التسعینیات، وقرر الوقف المؤقت لتسهیلات مالیة کبیرة إلی إسرائیل، وذهب إسحق شامیر ـ رئیس الوزراء الإسرائیلی وقتها ـ إلی المؤتمر مرغما کأنه ذاهب إلی محرقة، لکن بوش الإبن بدا ـ علی العکس ـ فی حالة استعطاف لإسرائیل، وبلغ غایة أمره بقبول إیهود أولمرت ـ رئیس الوزراء الإسرائیلی الحالی ـ مجرد الذهاب إلی أنابولیس ، ذهب لالتقاط الصور، وجامل إدارة بوش بقبول ظاهری لدور أمریکا الراعی، لکن الراعی تحول فی بضعة أیام ـ قبل الأسابیع التی تلت ـ إلی غنمة فی قطیع، سحب القرار المقدم لمجلس الأمن، بل وأنکر أنه فکر.

ثم جاءت تطورات لحقت لتضع بوش فی خانة العجز المستدیم، أطلقت إسرائیل موجة الاستیطان مجددا فی جبل أبو غنیم بالقدس، وبدت السیدة رایس ـ وزیرة خارجیة بوش ـ کأنها تغمغم بکلام غیر مفهوم، وبدا أنها تتحدث من المریخ حین قالت آمل ألا یؤثر ما جری علی المفاوضات !

قبلها صدر تقریر المخابرات الأمریکیة عن برنامج إیران النووی، وقال: ان إیران أوقفت مساعیها لصناعة قنبلة ذریة منذ عام 2003، وهنا تطور الموقف الإسرائیلی من الامتناع عن الطاعة إلی الهجوم الصریح، وبدا إیهود باراک ـ وزیر الحرب الإسرائیلی ـ کأنه یجهز حبل المشنقة لبوش، وصف بوش بأنه رجل غیر منطقی ، وقال عن بوش انه فشل فی حشد المجتمع الدولی ضد إیران لوقف برنامجها النووی . وهذه أول مرة یتحدث فیها مسؤول إسرائیلی عن رئیس أمریکی بهذه الطریقة المهینة، ولا یبدو من موضع لعجب، فالرئیس بوش یدخل سنة البطة العرجاء، یدخل العام الأخیر فی الرئاسة حیث لا فرصة لمبادرة، الکونغرس بأغلبیته الدیمقراطیة یسد علیه الطریق، ومن خلفه ضغط إسرائیل واللوبی الیهودی الذی یصل لذروة التأثیر فی عام انتظار الرئیس الجدید، والمعنی: أن رغبات بوش الضاغطة ـ إن وجدت ـ لا أثر لها الآن علی صانع القرار فی إسرائیل، وبافتراض أن بوش یرید دورا فی التاریخ، ویرید تسویة ما علی الجبهة الفلسطینیة ـ الإسرائیلیة، فقد فات زمن انتظار الجائزة، ولم یعد لبوش سوی الانتظار فی ترانزیت کعبء علی الزمن لا کصانع للزمن، أکثر من ذلک یبدو أن إسرائیل قررت تجاوز بوش إلی الرئیس التالی، وساحة التنافس علی خلافة بوش مغریة أکثر لتل أبیب، فأوباما وهیلاری ـ فی المعسکر الدیمقراطی ـ یتنافسان علی إبداء الولاء لإسرائیل، أوباما ـ السیناتور شبه الزنجی عن ولایة إلینوی ـ یرید إخراج أمریکا من العراق والتفرغ لخدمة إسرائیل، وهیلاری ـ الشقراء ـ تعیر أوباما بأنها زارت إسرائیل عددا أکبر من المرات. وفی المعسکر الجمهوری ـ حزب بوش ـ یبدو السیناتور جون ماکین المؤید بحماس لإسرائیل فی وضع أضعف من رودی جولیانی، فقد وصف رئیس الوزراء الإسرائیلی أولمرت عمدة نیویورک الشهیر جولیانی بأنه أفضل صدیق لإسرائیل ، وجولیانی یطالب بضم إسرائیل رسمیا لحلف الأطلنطی، ویطالب بمشارکة أمریکیة مباشرة فی حرب إسرائیل ضد حرکة حماس ، ویرفض ـ کما أکثر الإسرائیلیین تشددا ـ إعادة مزارع شبعا إلی لبنان، أو إعادة هضبة الجولان لسوریا، ومع المشهد الأمریکی الذی یبدو فیه السباق لرضا إسرائیل غایة المنی، یصعب ـ إلی حد الاستحالة ـ أن تقوم أمریکا بدور الراعی الضاغط علی إسرائیل، أو حتی المحاید، ویبدو البرنامج الزمنی الافتراضی للمفاوضات ـ إلی نهایة أیام بوش ـ مجرد عبث مضاف إلی الوقت الضائع.

وقد ذهبت الأطراف العربیة إلی أنابولیس ، لیس لأنها ساعیة إلی دور، أو راغبة فی اقتناع تام بأن أمریکا قد تفعلها ولو لمرة، وتضغط علی إسرائیل، بل ذهب المشارکون العرب لأن بوش ضغط علیهم أو أراد، فواشنطن هی الرب المعبود فی أغلب العواصم العربیة، ولا یعقل ألا یمتثل العبد لإرادة الرب، ربما السبب أن هذه الأنظمة تحکم بتفویض أمریکی لا بتفویض شعبی، وقد لا یکون هذا موضوعنا، المهم أنهم ذهبوا فی غیر حماس، وفضلوا أن یسمعوا وهم فی النعاس، فهم لیسوا طرفا مؤثرا فی شیء بل موضع التأثیر، ذهبوا على ظن أن أمریکا قد ترید إطفاء الحریق الفلسطینی ولو قلیلا، وإن فشلت، فإنها قد تنجیهم من حرائق إیران، ثم ثبت ـ فی الأیام التالیة على مؤتمر أنابولیس ـ أنهم خارج اللعبة تماما، فلا أمریکا قادرة ـ دعک عن الرغبة ـ على تسویة فی الجبهة الفلسطینیة، ولا أمریکا متعجلة فی الحرب ضد إیران.

والمحصلة : أنهم انتهوا إلی متاهة استراتیجیة حقیقیة، أضاعوا القوة الذاتیة، وانتهوا إلى رصیف الانتظار، ولم یعد لهم سوی أن یحتموا من غضب بإبداء سلوک ممالئ لأمریکا ومداهن لإیران، رحب المعسکر الخلیجی بالرئیس الإیرانی أحمدی نجاد فی قمة مجلس التعاون، وزاد ملک السعودیة بدعوة نجاد رسمیا لأداء فریضة الحج، وتوالت الوفود المصریة المتسللة إلى طهران، وبدا أن طهران ـ التی عارضت بعنف مؤتمر أنابولیس ـ صارت هی الفائز الأعظم، فقد تراخت ـ ولو إلی حین ـ احتمالات الحرب الأمریکیة ضدها بعد تقریر المخابرات المرکزیة، وأتیح لها ـ فی الوقت نفسه ـ مدى متسع لتدفئة علاقاتها بالقاهرة وعواصم الخلیج ( الفارسی ) ، ولم یعد حلفها العربی محصورا فی خندق دمشق، بل بوسعها الآن أن نتحدث ـ بثقة ـ عن تنافس شرس مع واشنطن على کسب ود ظاهر فی عواصم عربیة.

وبالتوازی استیقظت القاهرة والریاض لإستعادة صلات ظاهرة مع حرکة حماس، وعاد الخطاب الرسمی للعاصمتین ـ بتفاهم أفضل مع دمشق ـ یتحدث عن أولویة حوار بین حماس وعباس، أی أن عباس لم یعد الممثل الفلسطینی الوحید المعترف به عربیا کرغبة واشنطن وتل أبیب، وصارت مهمة عزل حماس أکثر صعوبة، ولم یعد بوسع عباس الذی یدعی أنه ذهب لأنابولیس فی سیاق عربی، لم یعد بوسعه أن یعاند ویرفض الحوار مع حماس إلى ما لا نهایة، فیما بدت حماس على إستعداد أکبر لإبداء المرونه فی وضع غزة.

والمحصلة أن حوار عباس مع حماس ـ حین یبدأ ـ قد یزاحم فیزیائیا حواره مع إسرائیل، خاصة أن إسرائیل تشکو من ضعف سلطة عباس، ولا تجد من سبیل سوی إستئناف الحرب مع حماس، فالهجمات الإسرائیلیة المتقطعة علی غزة لا توقف إطلاق الصواریخ، وعمدة سدیروت قدم استقالته احتجاجا على عجز الجیش الإسرائیلی، والجنرال باراک قد یجد نفسه مندفعا إلی هجوم شامل فی غزة، فالهجمة ضده فی حزب العمل الذی یترأسه تتزاید، وهم یتهمونه بالإلتواء الأخلاقی، وبنیة الحنث فی وعده بالخروج من حکومة أولمرت بعد صدور تقریر فینوغراد النهائی.

وقد یرید باراک أن یثبت لمنتقدیه أنه الأبعد نظرا، وأن بوسعه أن یعود لمنصب رئیس الوزراء خلفا لأولمرت فی انتخابات یقترب أوانها، وأن بوسعه استعادة هیبة الجیش الإسرائیلی بالحرب فی غزة بعد ضیاعها فی حرب لبنان، فقد یرید الجنرال أن یثبت أنه ملک إسرائیل بعد أن ضاع شارون آخر ملوکها الکبار فی الغیبوبة، وربما یکون هجوم الجنرال غیر المسبوق على بوش هو الخطوة قبل الأخیرة فی مراسم دفن مفاوضات ما بعد أنابولیس.

ولا تبدو من قیمة کبیرة لمؤتمر باریس للمانحین الذی تذهب إلیه حکومة عباس، ولا لخطط تونی بلیر ـ مندوب الرباعیة الدولیة ـ فی الترکیز أولا علی دفع فتح إلى الحرب مع إسرائیل ضد حماس، وکلها دعوات لارتکاب الخطایا دون قبض ثمن وطنی، إنها مجرد محاولات لقتل فراغ الوقت، تماما کما هو مؤتمر موسکو المدعو إلیه لمناقشة قضیة الجولان، کلها خطط خارج السیاق الذی تندفع إلیه حوادث المنطقة، والمشهد کله أقرب لإستئناف حرب ـ على جبهة فلسطین ـ قد تبدأ بدفن أنابولیس وأخواتها.

 

( المقال للکاتب المصری عبد الحلیم قندیل )

ن/25

 

 


| رمز الموضوع: 140845







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. المخابرات الإسرائيلية: إسرائيل قد لا تكون قادرة على تدمير حماس
  2. اصابة 3 مستوطنين بعملية إطلاق نار على حافلة شمال أريحا
  3. الخارجية الإيرانية تدعو الاوساط الدولية لوقف الممارسات الجنونية للصهاينة
  4. تجمع قرآني حاشد بطهران تنديدا بالعدوان الصهيوني على غزة
  5. امين المجلس الاعلى للامن القومي الايراني يستقبل اسماعيل هنية وزياد النخالة
  6. خلال استقباله رئيس المكتب السياسي لحركة حماس.. الرئيس الإيراني: الجمهورية الاسلامية تعتز وتفخر بدعمها للقضية الفلسطينية
  7. وزارة الصحة بغزة: 32490 شهيدًا و 74889 إصابةً منذ السابع من أكتوبر
  8. في اليوم الـ 173.. قصف "عنيف" على رفح وتدمير "مكثف" للمنازل السكنية بغزة
  9. اليمن يدشن عاشر أعوام الصمود بست عمليات ضد ثلاثي الصهيونية في البحر والبر
  10. دعمًا للشعب الفلسطيني الصامد في قطاع غزة.. حزب الله يستهدف 10 مواقع للاحتلال الصهيوني بالصواريخ والأسلحة المناسبة
  11. قياديان في حركتي الجهاد وحماس: اسرائيل فشلت في العدوان / أبدينا مرونة في المفاوضات لكن لا تراجع عن ثوابتنا
  12. تحت شعار "طوفان الاحرار".. اقامة يوم القدس العالمي هذا العام
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)