الجمعه 17 شوال 1445 
qodsna.ir qodsna.ir

الرؤیة الصهیونیة الفاشیة للهویة الیهودیة

 ثمة انطباع عام فی الأوساط العربیة، تروج له النخب الحاکمة والإعلام التابع لها، مفاده أن الصهیونیة مشروع ناجح تماماً. ألم یتم تأسیس الدولة وبالتالی حقق الصهاینة کل ما یصبون إلیه من أهداف وغایات؟ ولا یمکن إنکار أن فی هذا القول شیئاً من الحقیقة، فانتصارات الدولة الصهیونیة العسکریة، ووجود ما یزید عن ستة ملایین مستوطن صهیونی فی فلسطین وسط العالم العربی، هو إنجاز استعماری استیطانی إحلالی لاریب فیه. إلا أن ثمة مواطنَ ضعف إلى جانب مواطن القوة هذه. فالصهیونیة تطرح نفسها على أنها أیدیولوجیة ثوریة تهدف إلى تأسیس وطن قومی للشعب الیهودی، من خلال ما یسمى فی المصطلح الصهیونی "نفی الدیاسبورا"، أی تصفیة الجماعات الیهودیة فی أنحاء العالم، ونقل الیهود إلى فلسطین وتوطینهم فیها بعد طرد الفلسطینیین العرب من وطنهم.

ومن المعروف أن ثمة مسافةً تفصل بین الأیدیولوجیة الثوریة والواقع المطلوب إعادة صیاغته انطلاقاً من المثل الأعلى الثوری. ولکن حتى یمکن لها أن تغیر الواقع، لابد أن تکون المسافة المشار إلیها معقولة وإلا تحولت إلى أیدیولوجیة فاشیة. وسیلاحظ الدارس المدقق أن المسافة التی تفصل البرنامج الثوری الصهیونی عن الواقع مسافة أقل ما توصف به أنها شاسعة. فالبرنامج الصهیونی یتطلب عملیتیْ تهجیر (ترانسفیر): نقل الفلسطینیین العرب من فلسطین إلى خارجها، ونقل الجماعات الیهودیة من أوطانهم إلى فلسطین. وعملیتا "الترانسفیر" تستندان إلى تصور أن فلسطین أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض، وهو تصور خاطئ فی جانبیه. ففلسطین لم تکن أبداً أرضاً بلا شعب (فلسطینی)، وأعضاء الجماعات الیهودیة لم یکونوا قط شعباً واحداً، یتسم بالوحدة وله هویة واحدة، یبحث عن أرض، أی وطن قومی. ونحن نعلم تمام العلم أن الصهاینة أخفقوا فی الجزء الخاص بالفلسطینیین. فلم یتم تهجیر الفلسطینیین وبقیَ مئات الآلاف منهم فی فلسطین التی احتلت عام 1948، بل إنهم ازدادوا عدداً ووعیاً بهویتهم العربیة الفلسطینیة. وقد أخفق الصهاینة مرة أخرى فی تهجیر الفلسطینیین بعد احتلالهم غزة والضفة الغربیة عام 1967، ثم تصاعدت مقاومة هذا الشعب الذی زعم الصهاینة أنه لاوجود له. وقد کتبت العدید من الدراسات عن هذا الإخفاق الصهیونی.

المجتمع الصهیونی لن ینهار من الداخل، لأن مقومات حیاته لیست من داخله بل من خارجه، إذ یوجد عنصران یضمنان استمراره: الدعم الأمیرکی والغیاب العربی..

أما التناقض بین الرؤیة الصهیونیة الفاشیة للهویة الیهودیة والواقع الثری غیر المتجانس لأعضاء الجماعات الیهودیة، فهو تناقض ظهر منذ بدایة الحرکة الصهیونیة والاستیطان الصهیونی فی فلسطین، لکنه ظل کامناً حتى عام 1948 حین أعلن تأسیس الدولة الصهیونیة التی أصدرت قانون العودة الإسرائیلی الذی یؤکد أنه "یحق لکل یهودی أن یهاجر إلى إسرائیل". وقد نسی من أصدروا القانون (أو تناسوا) أن یُعرّفوا من هو الیهودی الذی یحق له الهجرة إلى فلسطین المحتلة بموجب هذا القانون، وما هی الیهودیة التی یؤمن بها؟ وقد أدى هذا إلى إثارة سؤال الهویة داخل المستوطن الصهیونی، بعد هجرة الآلاف من أعضاء الجماعات الیهودیة، یحمل کل منهم میراثه الدینی والإثنی، ویتسم کل منهم بهویة إثنیة/ دینیة خاصة استمدها من المجتمع الذی کان یعیش فی کنفه. وکان الأمر دائماً ما ینتهی إلى تجاهل هذا السؤال، أو تأجیل النظر فیه، أو الوصول إلى حلول تلفیقیة مؤقتة نظراً لعدم التوصل إلى حد أدنى من الاتفاق حوله، وهو ما عبر عنه أحد المعلقین الإسرائیلیین بقوله: إنه "مع مرور السنین، اتضح شیئاً فشیئاً أنه لا تتوفر إمکانیة لتکوین إجماع وطنی بخصوص هذه القضیة".

ولکن هل یمکن تأسیس "دولة یهودیة" دون تعریف الهویة الیهودیة، ودون التوصل إلی تعریف من هو الیهودی؟ هذه القضیة أو الإشکالیة لا یعطیها الإعلام العربی ما تستحقه. وقد یقول قائل إن هذه الإشکالیة من "مخلفات الماضی"، وإنها من الأمور الشکلیة غیر العملیة، لأنها لا تؤثر فی سلوک المستوطنین الصهاینة. ولکن مثل هذا القول سیکون من قبیل تطبیع النسق السیاسی الاستعماری الصهیونی، أی النظر إلیه کما لو کان نسقاً سیاسیاً عادیاً ولیس کیاناً استیطانیاً إحلالیاً، له ظروفه الخاصة. فتعریف الیهودی مسألة أساسیة للعقد الاجتماعی الصهیونی. فإذا کان تعریف المسیحی، على سبیل المثال، فی الولایات المتحدة مسألة شکلیة وتهم المسیحیین وحدهم، فإن هذا یعود إلى أن حکومة الولایات المتحدة لا تبحث عن شرعیة مسیحیة، ذلک أن مصادر شرعیتها تقع خارج نطاق الدیانة المسیحیة، بل وربما خارج التراث المسیحی ککل.

أما الدولة الصهیونیة فهی تدعی أنها یهودیة وأنها تجسد قیماً (إثنیة دینیة أو علمانیة) یهودیة، وأنها استمرار للدولة الیهودیة القدیمة (ولذا یطلق الصهاینة على إسرائیل اصطلاح "الهیکل الثالث" باعتبار أن هیکل سلیمان هو "الهیکل الأول" وأن هیکل هیرود هو "الهیکل الثانی"). وانطلاقاً من هذا، تطلب الصهیونیة من الیهود "العودة" إلیها فی أحسن تقدیر، أو إلى الالتفاف حولها ودعمها فی أسوئه، وباسم هذه الهویة الیهودیة المزعومة تقوم أیضاً بضم الأراضی وطرد أصحابها. ولذا فالفشل فی تعریف الیهودی یضعف من مقدرتها التعبویة، بل ویضرب أسطورة الشرعیة الصهیونیة فی الصمیم. والصهاینة أنفسهم یدرکون هذا تمام الإدراک، ومن هنا إصرارهم على ما یسمونه "تهوید" کل شیء فی فلسطین: التاریخ، والآثار، وأسماء القرى والمدن، وأخیراً تغییر اسمها هی نفسها، فتصبح فلسطین، بعد غزوها واحتلالها والاستیطان فیها، "إسرائیل". بل تزید الشهیة وتتسع الشهوة وتسمى أراضی الضفة الغربیة "یهودا والسامرة"، ویعاد تسمیة هذه الأراضی التی احتلت وتلک التی یشتهون احتلالها (ضفتی نهر الأردن- من النیل إلى الفرات) "إرتس یسرائیل".

إن قضیة تعریف الیهودی لیست قضیة دینیة أو سیاسیة وحسب، بل قضیة مصیریة تنصرف إلى رؤیة العالم والذات وإلى الأساس الذی یستند إلیه تضامن المجتمع الصهیونی وإلى مصادر شرعیته. ولا یوجد أی حل لهذه القضیة، کما نبین طی هذه الدراسة، ففکرة أن الیهود یشکلون شعباً بلا أرض، لا تقل فی زیفها وکذبها عن أن فلسطین أرض بلا شعب. وإذا کان الشعب العربی الفلسطینی یقاوم هذه الأکذوبة، ویثبت من خلال أشکال النضال کافة أن فلسطین أرض عربیة، مأهولة بسکانها العرب، فإن الواقع الإثنی والعرقی للمستوطنین الصهاینة فی فلسطین المحتلة، وللجماعات الیهودیة خارجها، یتحدى الأطروحات الصهیونیة ویبین طبیعتها الاختزالیة الفاشیة. بل إن سلوک أعضاء هذه الجماعات یتراوح بین رفض واضح وصریح للصهیونیة ورفض مراوغ لا یعلن عن نفسه، وإنما یأخذ أشکالاً کثیرة من أهمها رفض الهجرة إلى فلسطین المحتلة والاستیطان فیها. ولعل هذا الموقف یطرح قضیة أخرى، وهی قضیة: من هو الصهیونی؟ فبن جوریون نفسه قال إن الصهیونی هو من یهاجر إلى الدولة الصهیونیة ویستوطن فیها، وما عدا ذلک، فهو مجرد محب لصهیون؟

ویتصور البعض أن أزمة التجمع الصهیونی فی تنوعها واحتدامها وتصاعدها ستؤدی إلى انهیاره من الداخل، بل یتصورون أحیاناً أننی بدراسة تناقضات المجتمع الصهیونی ورصد مشاکله وهزائمه أتبنى، بل وأبشر، بهذا الوهم. وهذا أبعد ما یکون عن الحقیقة، فأنا أذهب إلى أن المجتمع الصهیونی لن ینهار من الداخل، لأن مقومات حیاته لیست من داخله، وإنما من خارجه، إذ یوجد عنصران یضمنان استمراره، رغم کل ما یعتمل داخله من تناقضات، وهما الدعم الأمیرکی والغیاب العربی. ولذا ما سیؤدی إلى انهیار الکیان الصهیونی العنصری لیست تناقضاته الداخلیة وإنما الاجتهاد والجهاد العربی، فهما وحدهما الکفیلان بذلک. هذا لا یعنی تجاهل هذه التناقضات، فمن الضروری فهمها وتوظیفها فی صراعنا ضده. والله أعلم.

 

( المقال للدکتور عبد الوهاب المسیری فی الاتحاد )

 

ن/25

 

 


| رمز الموضوع: 139358







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. القائد العام للجيش الإيراني: إيران اثبتت للعالم ان اي تهديد موجه ضدها سيواجه برد دقيق وماحق
  2. استقالة متحدثة باسم الخارجية الأمريكية بسبب الحرب على غزة
  3. باقري امام اجتماع مجموعة "بريكس": مفتاح الاستقرار واستتباب الهدوء في المنطقة يتمثل في وقف جرائم الكيان الصهيوني
  4. قائد حركة انصار الله: الأمريكي هو شريك للعدو الإسرائيلي في كل جرائمه الفظيعة ضد الشعب الفلسطيني
  5. الفصائل الفلسطينية تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح الاحتلال رفح
  6. ارتفاع عدد الصحفيين الشهداء منذ بدء العدوان الصهيوني على غزة إلى 141
  7. قيادي في حماس: عملية طوفان الأقصى حققت أبعادها السياسية والاستراتيجية والإنسانية
  8. القوات المسلحة اليمنية : استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين في خليج عدن وسفينة إسرائيلية في المحيط الهندي
  9. بعد استقالة حاليفا.. "تأثير الدومينو" يلحق قيادات الجيش الصهيوني
  10. بيان إيراني باكستاني مشترك ضد الكيان الصهيوني
  11. خلال استقباله حشدا من العمال في انحاء البلاد.. قائد الثورة الإسلامية: جميع الشعوب تدعم فلسطين / الارهابيون الحقيقيون هم من يقصفون الشعب الاعزل في غزة
  12. قيادي في "حماس" : لدى الحركة نحو 30 أسيرا من الجنرالات وضباط الشاباك
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)