السبت 11 شوال 1445 
qodsna.ir qodsna.ir

فصل المقال فی ما بین مدرید و"أنابولس" من اتصال

 ومضت فکرة بوش العبقریة بعقد مؤتمر للسلام بلا معنى مثل برق صیفی لا یعقبه مطر. احتاجت الإدارة الأمریکیة إلى حدث سیاسی یثبت أن سیاستها فی المنطقة العربیة لم تمن بفشل ذریع. ولم تخطر ببال الرئیس الأمریکی فکرة أفضل مما اقترحته وزیرة خارجیته: تکرار مؤتمر مدرید للسلام الذی هندسه جیمس بیکر فی عهد والده. فلسبب ما تعتبر سیاسات بوش- بیکر فی المنطقة العربیة منذ حرب الکویت قصة نجاح یسعى الجمهوریون إلى تقلیدها والتذکیر بها. والمؤتمر على الأقل یأتی بالعرب الى واشنطن ممتنین على إعارة الامبراطوریة إهتمامها لقضیة فلسطین مجدداً. فمنذ فترة تبنى العرب الرسمیون وحواشیهم مفاهیم من نوع: "عملیة السلام" و"العملیة"، و"تبوء القضیة الفلسطینیة مکانة مرتفعة أو منخفضة على جدول أعمال الإدارة الأمریکیة"، و"إعطاء دفعة للجهود الدبلوماسیة"، فضلاً عن تعابیر مثل "رؤیة بوش"، والتخویف بعبارات مثل "قد تهمل أمریکا عملیة السلام وأن تنشغل علیها بأمور أخرى". المشترک بین هذه التعابیر والعبارات أنها تفترض نسیاناً شاملاً ومتکرراً لماضیها ذاته ولا یتعب مروجوها من انفضاح امرها فی کل مرة، وأنها تهمِّش المضمون وتقدِّس الشکل والعملیة والاهتمام والمکانة على الأجندة الأمریکیة. أما أسئلة مثل لماذا؟ ومن أجل ماذا؟ وما السیاسة الأمریکیة أصلاً؟ فتبدو تساؤلات طفولیة ساذجة فی أعین من احترفوا هذه التعابیر.

صحیح أن المؤتمر هو حدث بحد ذاته. ولکن الأحداث التاریخیة، کما عقب کارل مارکس على حالة نابلیون الثالث، تکرر نفسها مرتین، فإذا انتهت فی الأولى کمأساة، تنتهی فی الثانیة إلى مهزلة، أو إلى "مسخرة" بالعربیة. لقد انتهى مدرید إلى فصل المسارات العربیة الذی أعقبته مأساة أوسلو التی بقیت القضیة الفلسطینیة رهینتها حتى یومنا. أما مؤتمر أنابولس فقد بدأ کمهزلة. ومن أیام التحضیر الأولى تبین أنه اجتماع ولیس مؤتمراً، ثم تبین أنه لقاء، وأخیراً اتضح أنه افتتاح لعملیة تفاوض تتلوه. وماذا کان مؤتمر مدرید؟ کان ایضاً افتتاحاً لعملیة تفاوض. کم مرة سوف تفتتح عملیات التفاوض؟ وکم مرة سوف تلقى خطابات مرصعة باقتباسات من التوارة، منمنمة بآیات قرآنیة، کم مرة سوف یذکر سیدنا ابراهیم الخلیل، و"أبراهام أبینو"، أو أبونا ابراهیم وأبناؤه إسحق وإسماعیل فی قاعات باردة أعدت خصیصاً للخطابات والوفود الجالسة على شکل مثلث، یجلس رأسه على طاولة المفاوضات فیما تتثاءب قاعدته أو تضحک امتصاصاً للتوتر على اتفه نکتة. وبوفود وصحافیین وصحافیات یقابلون بعضهم بعضا، وینتظرون جمیعا لا شیء، محولین فی أحادیثهم لتمضیة الوقت خطاباً شبلونیاً مملا إلى خطاب مؤثر أو "متماسک"، أو رکیک أو سمیک؟ وهو فی النهایة اجتماع خطابی تتلوه مفاوضات.

وماذا فعل العرب منذ مدرید حتى الیوم؟ فاوضوا. وملأت إسرائیل المناطق المحتلة بالمستوطنات إبان التفاوض. ما الحاجة إذاً لافتتاح جدید؟ لیس لدى کاتب هذا المقال معلومات عن حاجة تفاوضیة لافتتاح جدید. وفکرة المؤتمر لم تأت من الأطراف المتفاوضة طبعاً. یقولون إنه فی هذه المرة ستکون مفاوضات جدیة حول دولة فلسطینیة. إنه إذاً افتتاح المرحلة الجدیة فی المفاوضات. وبالنسبة لما سوف نشهد فی الأشهر الثمانیة القادمة کانت المفاوضات حتى اللحظة "لعب عیال"، هکذا یَعِد المفاوض الفلسطینی نفسه. ویفند أولمرت هذا الوعد انه خلال ثمانیة أشهر سوف یکون اتفاق، مؤکدا انه غیر ملزم بجدول مواعید، أیاً کان، للانتهاء من مفاوضات الحل الدائم.

لم یتفق الفلسطینیون والإسرائیلیون المتفاوضون على القدس ولا على الحدود ولا على إزالة کافة المستوطنات، أما بالنسبة لحق العودة فقد قطعوا شوطاً لا بأس به فی التمهید لتخلٍ رسمی فلسطینی وعربی عن ممارسته، وذلک بتحویل "لا –موضوع" مثل یهودیة الدولة الى موضوع تفاوضی مثل بقیة الموضوعات، اقصد مثل القدس واللاجئین والحدود والمستوطنات.

وهنالک شبه اتفاق على "رؤیة بوش". وهی لیست أمراً مختلفاً على الإطلاق عن "رؤیة شارون" التی سبقتها. ولا تعنی سوى مقایضة کافة الحقوق الفلسطینیة، التی سمیت مرة غیر قابلة للتصرف، بکیان سیاسی فلسطینی تحکمه بعد عمر طویل نخبة سیاسیة فلسطینیة باتفاق سلام مع إسرائیل، بعد ان تکون قد وفت بالتزامتها فی مکافحة الإرهاب. لن تکون هذه الدولة الفلسطینیة على حدود 1967 ولن ترافق قیامها عودة الفلسطینیین الى دیارهم، ولن تفکک قبل قیامها او بعده کتل الاستیطان الکبرى، ولن تمارس سیادة على القدس العربیة، وربما تمنح سکان القدس العرب، بمعنى انهم سیکونون مواطنین فیها ومقیمین فی إسرائیل، کما ستمنح امکانیة الوصول الى الاماکن المقدس. هذه تفسیرات عملیة لرؤیة بوش/ شارون.

على کل حال، کان بالإمکان ممارسة هذه الرؤیة المشترکة فی المفاوضات. ولکن الافتتاح الجدید هو حاجة أمریکیة واحتفالیة لبوش والحزب الجمهوری وبلیر ورایس الذین أنجزوا أخیراً مؤتمرا للسلام، فیما یعیش الفلسطینیون فی غزة واللبنانیون فی لبنان والعراقیون فی بلدهم کابوساً لا رؤیة.

لم یبن هذا المؤتمر على توق الولایات المتحدة الى إنجاز على المستوى المعنوی فقط، بل تجاوز ذلک إلى ضرورة الانتباه، او بالعامیة الفلسطینیة واللبنانیة "الإلتکاش" الى وضع المعتدلین العرب. فهؤلاء دعموا الموقف الأمریکی من کافة القضایا وفی کل مناسبة، ولم یخالفوها الرأی منذ ان توقفت عن التدخل فی شؤونهم الداخلیة مع نهایة مرحلة المحافظین الجدد. ولکن آن الأوان أن تقدم لهم الولایات المتحدة ما "یبل الریق" على مستوى "عملیة السلام". ولکنهم وجدوا انفسهم من جدید یسایرونها بدلاً من أن تسایرهم، فأولمرت رفض مبادرة السلام العربیة، ولم یتعاون فی تقدیم مبادرات نوایا حسنة، وتواطأ معه رأیه العام الذی یرفض حتى بحث غالبیة قضایا الحل الدائم، وإن کان نفس الرأی العام یؤید الذهاب الى أنابولس، کما یؤید التفاض مع سوریا والفلسطینیین بأغلبیة مشابهة أی 65-70%. وبدلاً من أن یشکل المؤتمر دعماً للأنظمة المؤیدة للتسویة باتت مجرد المشارکة مصدر حرج لهم. وقد استمعوا فی القاهرة الى رئیس السلطة الفلسطینیة وهو یتحدث عن مناسبة وفرصة تاریخیة لا یجوز تفویتها. ولکنهم یعرفون جیداً أن السلطة رهینة التفاوض والمکرمات الإسرائیلیة، وأنه یهرب إلى الأمام إلى إسرائیل من فکرة العودة الى حکومة وحدة وطنیة فلسطینیة.

وهنا ننتقل الى ما أنجز فعلاً قبل ان یعقد المؤتمر. لقد بنی المؤتمر على الخلاف والصراع الفلسطینی الداخلی. وقبل هذا الشقاق کانت إسرائیل قد جمدت ما تسمى العملیة السلمیة، واشترطت ان یتخلى رئیس السلطة وسلطته عن مجرد الحدیث مع حماس لکی تقبل إسرائیل بمجرد الکلام معه. أصبح لدى إسرائیل شروط حتى للحدیث مع السلطة، وکان أولها وقف الحوار او التعاون مع حماس، ای مع جزء واسع من شعبها الواقع تحت الاحتلال. وقد اثبتت السلطة نفسها هنا فی تلبیة هذا الشرط ونالت إطراءات إسرائیلیة على موقفها الحازم ضد حماس، الى درجة جلب العالم کله الى مؤتمر أنابولس کشاهد زور على مفاوضات لم تبدأ، وإن بدأت فلیس هنالک ما یضمن نجاحها، وذلک لتشجیع وتعزیز وتمکین (بلغة المجتمع المدنی) مکانة المعتدلین الفلسطینیین. لا شک فی انهم یشعرون بأهمیة وبعضهم متأکد، أنه یسمع رفرفة جناحی التاریخ وهو یحلق حول انابولس، فالفرصة تاریخیة کما قیل. کم یصبح الإنسان مهماً إذا قبل شروط إسرائیل، وکم تتقن الولایات المتحدة وإسرائیل عملیة منحه هذا الشعور بالأهمیة!! کان هذا هو الإنجاز الأول.

أما الإنجاز الثانی فقد بدأ الحدیث عنه للتو. اعلنت إسرائیل فی عدة مناسبات، وعلى لسان عدة ناطقین، ان الشرط للحدیث مع الفلسطینیین قد تحقق. أما شرط التقدم فی التفاوض فیکمن فی تنفیذ الفلسطینیین حصتهم من التزامات خارطة الطریق، وهی الکامنة فی مکافحة "الإرهاب" وبناه التحتیة، أی ضرب المقاومة والقضاء علیها أولاً فی الضفة الغربیة، ثم فی غزة. وکان هذا الشرط المتضمن فی خارطة الطریق موضع خلاف مستمر مع یاسر عرفات، خاصة وأن إسرائیل ترید من الطرف الفلسطینی ان یثبت نفسه لینال إعجابها، ثم نرى. وقد حیت إسرائیل السلطة الفلسطینیة على موافقتها على هذا الشرط، وهی تدعوها الآن لتنفیذه.

أنجزت إسرائیل هذا کله حتى قبل ان تبدأ المفاوضات. وأصبح المفاوض الفلسطینی أضعف فی المفاوضات وحتى أمام الرأی العام الإسرائیلی نتیجة للانشقاق الحاصل على الساحة الفلسطینیة، ونتیجة لمعرفة إسرائیل بارتهان جزء کبیر من القیادة الفلسطینیة بحسن نوایاها وبنجاح التفاوض معها. عندما کان الموقف الفلسطینی موحداً أو شبه موحد اشترطت إسرائیل الکلام بحصول الانشقاق الداخلی. وعندما حصل الانشقاق أخذت تدعی ان السلطة وقیادتها ضعیفة ولا تستطیع ان تسیطر میدانیا ولا تستحق أن تقدم لها تنازلات جدیة.

یکمن الإنجاز الثالث والأخیر فی فک ارتباط العرب بقضیة فلسطین وعدم وجود ملاحظات لدیهم، تارکین الأمر لسلطة فلسطینیة ضعیفة إلى درجة تحول القضیة إلى مسألة إسرائیلیة داخلیة. فهم معها فی ضعفها یفهمونه ویفهمونها ویدعمون کل "واقعیة" تنتج عن هذا الضعف، وهم طبعاً "لن یکونوا فلسطینیین اکثر من الفلسطینیین". صحیح انهم یستغلون کل أزمة تطرأ على المفاوضات للتدلیل على صمود الطرف الفلسطینی وعدم تنازله بسهولة. ولکن بسهولة أو بصعوبة، مع أنهم ومن دون تأنیب ضمیر قبلوا على أنفسهم دور العرابین وشهود الزور.

هذا هو الأساس ولیس الترویج أن مجرد الجلوس فی أنابولس هو تطبیع، فجمیع هذه الوفود شارکت فی مدرید فی الماضی. ولم یعقب المشارکة تطبیع بالضرورة، بل مسارات منفردة لایزال بعضها یراوح فی مکانه. وتم التوصل الى اتفاق سلام مع الأردن. أما الطرف الوحید الذی طبع علاقاته مع “إسرائیل” منذ مؤتمر مدرید من دون اتفاق سلام فعلی فهو منظمة التحریر الفلسطینیة.

ویبدو أن سوریا قررت المشارکة فی أنابولس بسبب الحالة العربیة التی سوف تترکها معزولة فی النظام الرسمی العربی فی حالة المقاطعة، وربما تشارک کدلیل على فشل الحصار الغربی المفروض علیها. وهی تعلم أنه لا ضمان إطلاقاً أن تؤدی مشارکتها هذه الى استعادة هضبة الجولان، حتى لو ذکرت على جدول أعمال المؤتمر. المشکلة فی الحضور انه انسجم فی الموقف العربی الذی یترک للسلطة الفلسطینیة بوضعها الحالی، القائم على الضعف الداخلی والخارجی، مسار التفاوض مع إسرائیل، کما أنه سهل على آخرین الحضور بالتأکید.

( المقال لعزمی بشاره  )

 ن/25

 


| رمز الموضوع: 139333







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. قيادي في حزب الله: الرد الإيراني قرار إستراتيجي تاريخي غيّر المعادلات والحسابات في المنطقة
  2. خلال لقائه منسق الأمم المتحدة .. وزير الخارجية الإيراني: نتنياهو خرج عن نطاق السيطرة ويجب لجمه
  3. 7 إصابات جديدة- الاحتلال يواصل حصار مخيم نور شمس
  4. حماس تُدين العدوان "الغاشم" على مقر للحشد الشّعبي في العراق
  5. المتحدث باسم الحرس الثوري يفند مزاعم الحاق اضرار بمفاعل ديمونة جراء الرد العسكري الايراني
  6. تعقيبا علي الهجوم المركب بالصواريخ الموجّهة ‏والمسيّرات الانقضاضية إعلام الاحتلال يقر بصعوبة تعامل جيش الاحتلال مع مسيّرات حزب الله
  7. حزب الله يستهدف مقر قيادة في "عرب العرامشة".. والاحتلال يعترف بإصابات بالغة
  8. حماس: الرد الإيراني يؤكد أن وقت عربدة الكيان الصهيوني كما يريد بلا حساب قد انتهى
  9. الرئيس الايراني خلال اتصال هاتفي مع نظيره الروسي: سنرد على أي عمل ضد مصالح إيران بقوة أكبر وأوسع وأكثر ايلاما مقارنة بردنا السابق
  10. المرجع الديني آية الله جوادي آملي يشيد بعملية "الوعد الصادق" ضد الكيان الصهيوني
  11. الكشف عن مقبرة جماعية بغزة / قوات الاحتلال أعدمت الشهداء ودفنتهم في باحة مجمع الشفاء
  12. "الجهاد الإسلامي" تشيد بالرد العسكري الإيراني واستهداف مواقع عسكرية داخل الكيان الصهيوني
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)