qodsna.ir qodsna.ir

الأبعاد الإستراتیجیة لانتفاضة الأقصى

فی ذکراها السابعة.. الأبعاد الإستراتیجیة لانتفاضة الأقصى

 

 

 

لقد رسخت الانتفاضة مبدأ أن للشعوب خیاراتها وباستطاعتها فرضها، والتأثیر بالتالی على معادلة الصراع وإیقاف مشاریع من شأنها هضم حقوقها. فالانتفاضة ولدت من رحم اتفاق أوسلو الذی غیب الشعب الفلسطینی وتعامل معه على أنه قطیع یساق، وأعفى المحتل من تبعات الاحتلال مع بقائه جاثما على صدر الشعب الفلسطینی.

وردا على هذا الإجحاف، أظهرت الانتفاضة الشعب الفلسطینی متحکما بزمام الأمور وأن تبعات تجاوزه من قبل الساسة وخیمة على المنطقة.

وأعطى ارتباط اندلاع الانتفاضة باقتحام شارون للمسجد الأقصى مؤشرا یدل على ما للمقدسات من أهمیة عند أبناء الشعب الفلسطینی تهون معه التضحیات. وفرضت الانتفاضة بعملها هذا القدس والأقصى خطان أحمران لا یمکن التلاعب بهما.

وقد أوصلت الانتفاضة الرسالة بلیغة للقادة الصهاینة إن قصدوا بخطوة شارون اختبار إرادة الشعب الفلسطینی. وهکذا سُجّلت انتفاضة جدیدة باسم الأقصى کما حدث سنة 1990 وغیرها رجوعا لثورة البراق سنة 1929 .

وأکدت الانتفاضة أن الشعب الفلسطینی کل لا یتجزأ. فهو یتألم لنفس الألم. فکانت انتفاضة عرب 48 فی أکتوبر/تشرین الأول من عام 2000 تضامنا مع إخوانهم فی الضفة وغزة، وأصبح سقوط ثلاثة عشر شهیدا منهم مناسبة لتذکیر العالم بأن عرب الداخل فلسطینیون حتى النخاع، وأن تخلی الساسة الفلسطینیین عنهم فی اتفاق أوسلو لا یغیر من الحقیقة شیئا. وکذا سقوط شهداء من مخیمات لبنان تضامنوا مع إخوانهم.

وفی مسألة عرب 48 أیضا، ساهمت الانتفاضة بالتعریف بهم وماهیة قضیتهم ومعاناتهم، والعزلة التی یعیشونها. وأصبحوا حاضرین فی البعد الفلسطینی والعربی. وجرى تسلیط الضوء على أنشطتهم وشخصیاتهم. مما یعد مهما على المدى البعید فی توظیف طاقات وإمکانات الشعب الفلسطینی مع اختلاف ظروفه المحلیة للصالح الوطنی.

وتجسدت الوحدة الوطنیة الفلسطینیة أیضا فی فعالیات الانتفاضة. وبینت بأنه بالإمکان قیام عمل فلسطینی مشترک رغم وجود التباینات السیاسیة والتنوع الحزبی. وأن الترکیز على مقارعة المحتل من شأنه تذویب الخلافات. وکانت صور القائدین مروان البرغوثی وحسن یوسف یدا بید فی مسیرات الاحتجاج فی شوارع الضفة نموذجا عملیا لهذه الوحدة.

وللانتفاضة فضل فی رجوع القضیة إلى المربع الصحیح فی توسیع دائرة الخیارات فی الصراع مع العدو، وعدم قصرها على المفاوضات. وکان انتهاج العمل العسکری المشروع فی مقاومة المحتل سمة بارزة فی انتفاضة الأقصى. وتوج ذلک بتأسیس أجنحة عسکریة لفصائل المقاومة الفلسطینیة. ونرکز هنا على کتائب شهداء الأقصى التی أرجعت حرکة فتح إلى اعتماد خیار الکفاح المسلح. وأضحى التنافس الفصائلی فی تحقیق إنجازات نوعیة فی العملیات ضد المحتل مضرب مثل.

وقدمت الانتفاضة نماذج رائعة فی التضحیة والفداء لمئات الشهداء وقصصهم وطریقة استشهادهم، وأصبحوا نجوما تتغنى بهم الأجیال الجدیدة من أبناء الشعب الفلسطینی بل وتعدى ذلک إلى کل عشاق الحریة فی العالم.

وأکثر من هذا، فقد ضرب القادة الفلسطینیون أمثلة غایة فی الأهمیة فی مسیرة الشعب لتحقیق الحریة، فکان أن دفعوا حیاتهم رخیصة فداء للوطن. کالرئیس عرفات والشیخ یاسین وأبوعلی مصطفى والدکتور الرنتیسی. ومنهم من یقبع فی السجون کالقائد أحمد سعادات.

ولا ننسى شموخ أمهات الشعب الفلسطینی وهن یقدمن فلذات أکبادهن رابطات الجأش ماضیات العزیمة، وأصبح شریط أم محمد فرحات (خنساء فلسطین) خالدا فی ذاکرة الأمة، فهی التی ودعته لتنفیذ عملیة فی قلب مغتصبة صهیونیة، ثم استقبلته لاحقا شهیدا. ودخلت نساء فلسطین التاریخ استشهادیات جنبا إلى جنب مع إخوانهن، کالاستشهادیة ریم الریاشی وآیات الأخرس.

إن تجسید فکرة الشهادة فی مستهل القرن الواحد والعشرین یُعد مبدأ مهما أوجد فی الذهن العربی والإسلامی الحدیث استدعاء موروث التضحیة والشجاعة والفداء من قصص الخالدین والفاتحین فی التاریخ العربی والإسلامی.

لقد شکل هذا للأجیال الجدیدة محضنا تربویا عملیا فی التعریف بمفاهیم کان یصعب تخیلها لولا الانتفاضة. فکان أن توفرت فرصة تحقیق دیمومة الصراع بأبعاده الصحیحة وبالمفردات الأصیلة التی تضمن عدم النسیان والرکون.

وساهمت الانتفاضة فی تشکیل وبلورة الهویة الوطنیة الفلسطینیة للأجیال الجدیدة سواء فی فلسطین أو فی الأماکن الأخرى التی یتواجد فیها أبناء الشعب الفلسطینی دون استثناء، ومنها دول المهجر الغربی.

ورسخت فکرة ثقافة الارتباط بالوطن. فکان النهوض بالعمل الجماعی الفلسطینی فی الخارج لصالح دعم الانتفاضة، مما أوجد فرصا لفرز قیادات میدانیة شابة فلسطینیة فی أماکن عدة، وعمّق حالة من التفاعل مع المحیط الذی یعیش فیه الفلسطینیون لصالح التعریف بالقضیة کما هو حال فلسطینی الغرب، سواء فی أوروبا أو على طرفی العالم فی الغرب الأمیرکی أو الشرق البعید کأسترالیا. وبرزت روح السفر إلى فلسطین لدى الأجیال الجدیدة الحاصلة على الجنسیات الغربیة.

وفتقت الانتفاضة طاقات الإبداع الفنی والثقافی لدى أبناء الشعب الفلسطینی بل والعربی والإسلامی والعالمی. فتولد عندنا ما یعرف بأدبیات الانتفاضة من شعر ونثر وسینما. وکذا استخدام التکنولوجیا کالإنترنت وتنظیم الحملات العالمیة للتأثیر على الرأی العام العالمی بهذه الوسیلة.

وخلقت الانتفاضة جوا من التکافل والتعاضد الفلسطینی سواء فی الداخل أو بین الداخل والخارج. وأبرزت أهمیة دور فلسطینیی الخارج وحیویته فی صمود الداخل فی وجه المحتل.

وأبرزت الانتفاضة أهمیة الإعلام فی الصراع. وأظهرت أن توظیفه قد یشکل تغیرا فی المعادلة. وهذا حال الصهاینة دائما فی التعامل بعنایة مع الإعلام الغربی وقلب الحقائق.

وبدأت الحقیقة المجردة تظهر بشکل واضح فی عصر الانتفاضة بنقل صورة قتل الأطفال کمحمد الدرة وهدم البیوت وتجریف الأراضی فی تجلیة حقیقة هذا الکیان الغاصب.

وساعدت الانتفاضة فی تسلیط الضوء على قضایا أساسیة فی الصراع کالاستیطان وخطورته والأسرى الفلسطینیین ومعاناتهم. وکذلک ظاهرة العملاء، الغریبة عن شعبنا.

وأجبرت الانتفاضة العدو الصهیونی على إظهار وجهه الحقیقی وإخراج مخزونه بالکامل من الوحشیة والعدائیة والعنف، وتوج ذلک بانتخاب السفاح شارون رئیسا للوزراء. وکان الجدار العازل وخطورته دلیلا على طریقة التفکیر الصهیونی فی التعامل مع الشعب الفلسطینی.

وهذا ما أکسب الشعب الفلسطینی تعاطفا عالمیا مع قضیته. وأنتج حرکات منظمة داعمة لحقوقه من شتى أنحاء العالم وأوجد العدید من الأفکار التی شکلت حالة نهوض فی التفاعل مع القضیة الفلسطینیة. وهذا غیر مقتصر على البعد الشعبی بل والرسمی. مما یستحق أعمالا أکادیمیة لتوثیقه والعمل على تطویره.

ومما یسجل من إنجازات أن القضیة الفلسطینیة استعادة وهجها ورونقها ببعدیها العربی والإسلامی. بعد تغیبها النسبی فی فترة ما بعد أسلو. فکان أن اشتعلت جذوة تعاطف الشعوب العربیة.

وترسخت مرکزیة القضیة فی الضمیر العربی والإسلامی، وظهر أنها تشکل حالة إجماع لدى الأمة. وأنها مؤهلة لتکون العامل الأهم فی طریق توحید الأمة العربیة والإسلامیة فی وجه الأخطار.

لقد أکدت الانتفاضة ببعدها الإستراتیجی أن القضیة الفلسطینیة متحرکة بشکل دراماتیکی. ولا ینفصل هذا عن کثرة المتغیرات على الصعید الدولی مما یخلق ظروفا سیاسیة ووقائع تغیر حتما فی موازین القوى.

وعلیه یکون من الخطأ الجسیم لأی سیاسی فلسطینی أن یقدم على مشاریع حل للقضیة مع العدو الصهیونی فیها ضیاع للحقوق معتمدا على أن میزان القوى مختل لغیر صالحنا، وأنه لیس بالإمکان أکثر مما کان. فنحن بصدد مثال یثبت أن الظروف تتبدل وبالإمکان صیاغتها بما یحقق الأهداف المرجوة.

أخیرا لعل فی الانتفاضة دروسا للمفاوض الفلسطینی تحذره من اللعب بمصیر الشعب. فالشعوب حین تنتفض تقلب الطاولة على الجمیع، فهل من متعظ!
ن/25


| رمز الموضوع: 139316